بقلم : عصام الحلبي
على تخوم بيروت، المدينة التي كانت وما زالت عاصمةً للثقافة والتعددية والانفتاح، يستقرّ مخيم شاتيلا كجرحٍ مفتوحٍ في ذاكرة المكان، وكنقطة التقاءٍ بين الجغرافيا والتاريخ، بين الوجع الفلسطيني والحلم الذي لا يخبو بالعودة، شاتيلا ليس مجرد مساحة ضيقة من الأبنية المتشابكة والأزقة المزدحمة، بل هو حكاية لجوءٍ متجذّرة في قلب بيروت، المدينة التي احتضنت الأدباء والمفكرين والمناضلين، لتغدو منبرًا للحريّة وملاذًا لكل صوتٍ يبحث عن العدالة. في هذا المخيم الصغير تختصر فلسطين مأساتها الكبرى، من نكبةٍ إلى نكسةٍ إلى حصارٍ ونضالٍ مستمر.
يعيش أبناء شاتيلا كما يعيش إخوتهم في مخيمات لبنان الأخرى، من نهر البارد إلى عين الحلوة، وهم يحملون الوطن في وجدانهم وينسجون تفاصيل حياتهم اليومية على أمل العودة إلى بيوتهم وبياراتهم في فلسطين، هذا الحلم لم يبهت رغم مرور العقود وتبدل الأزمنة، بل ظلّ يتوارثه الأبناء عن الآباء كوصيّةٍ مقدّسةٍ لا تسقط بالتقادم ،منذ نشأته، كان شاتيلا خزّانًا للنضال الوطني الفلسطيني، ومنبرًا للمقاومة بمختلف أشكالها، رغم ما تعرض له من محاولات التشويه والاستهداف.
فالمخيم الذي شهد مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982 بقي شاهدًا على مأساةٍ إنسانية لم تمحها السنوات، وعلى إرادة حياةٍ لا تُقهر رغم كل الخراب والدماء.
تداخلت الجغرافيا بالسياسة، وتبدلت التحالفات، وتغيرت أنظمةٌ ووجوه، لكنّ المخيم بقي في موقعه، يواجه تقلبات الزمن بثباتٍ عنيد. وما لحق بشاتيلا من فوضى وتشويهٍ في صورته الاجتماعية والسياسية لم يكن إلا نتيجة لعوامل خارجة عنه، فرضتها ظروف الحرب الأهلية اللبنانية وتبدلات المشهد الإقليمي. إلا أن وجهه الحقيقي ظلّ نابضًا في ذاكرة أهله… وجه الانتماء إلى فلسطين، والإيمان بالشرعية الوطنية ممثلةً بمنظمة التحرير الفلسطينية.
اليوم، يعود المخيم ليستعيد عافيته، وليزيل الغبار الذي تراكم على ملامحه. هناك حراك وطني واجتماعي يسعى إلى إعادة تنظيم الحياة داخل المخيم، وإلى ترسيخ التنسيق مع الدولة اللبنانية بما يحفظ الأمن والاستقرار ويكرّس احترام سيادة لبنان، من دون أن يُغفل حق اللاجئ الفلسطيني في حياةٍ كريمةٍ وهو ينتظر عودته إلى وطنه. فشاتيلا اليوم لا ينفض عن نفسه غبار الماضي فقط، بل يعلن تمسكه بالمستقبل، وبحقّه في أن يكون عنوانًا للكرامة الإنسانية، لا رمزًا للبؤس والحرمان.
يبقى مخيم شاتيلا أكثر من مجرد مخيم لاجئين، إنه مرآة لرحلة الفلسطيني في المنفى، وسجلٌّ مفتوحٌ على التاريخ في تقاطع الجغرافيا مع الزمن، يظل المخيم شاهدًا على أن الذاكرة لا تموت، وأن الشعوب التي تؤمن بحقها في الحياة والحرية قادرة على أن تنهض مهما طال الليل، ومهما تبدلت الموازين.