آخر الأخبار

ما بعد «زمن الانتصارات»

1 (1)

خليل كوثراني

ليس الحدث الحقيقي مجرد ما يصل على شكل عاجل إلى هواتفنا، بل ذاك الذي يقبع وراءه أي ما يغيّر إطار فهمنا بالمرّة. بهذا المعنى، كان «طوفان الأقصى» حدثاً صادماً ليس فقط لإسرائيل، بل للمقاومة نفسها؛ لقد هزّ المنظور المستقرّ للمقاومة لنحو ربع القرن.
انطلقت تجربتا المقاومتين الإسلاميّتين، اللبنانية والفلسطينية، في سير «عكس التاريخ» في التسعينيات، على أساس أنّ البديل عن عجز الدول العربية وعن مساومة الحركات المترهّلة، هو القتال الشعبي المنظم، والعقائدي إنما المندمج نسبياً في مجتمعاته المحلّية.

وقد ثبّتت أحداث مطلع الألفية أهليّة هذه الرؤية في لبنان وفلسطين، وذخّرتها بشرعية رمزية وعملانية لعقدين متتاليين من الزمن. من هذه الخلفية، وممّا رافق بعض نقاشات السنتين الماضيتين، نلمس أنّ مقولة «زمن الانتصارات» (وهي شعار خطاب التحرير) علقت في الأذهان أحياناً على أنها وعد دائم بقفلة قاضية – مشهد ختامي يحسم التاريخ.

ضمن زاوية الرؤية هذه، بدت لكثيرين تداعيات عملية «طوفان الأقصى» خاتمةً لقوس «زمن الانتصارات» الذي كان التحرير عام 2000 فاتحته؛ وهذا وعيٌ يقارب الفعل المقاوم وفق مقاييس معيارية يرى التاريخ خطّاً مستقيماً. ونقد المعايير هنا ليس دعوة لتقديس المقاومة في ذاتها على نحو عدَمي أو عبثي بمعزل عن الجدوى، بل التخفّف من أدوات قياس كادت تتحوّل إلى «طقس»؛ أن يتحوّل خطاب الانتصار إلى طقوس أو تكرار رتيب نتمركز حوله في ما يشبه حال شيخوخة سياسية قاتلة، فلا فاعلية تنتج، إنما استقالة من التفكير وخسارة لمرونة تحدّي الجديد.

فحص آلات القياس التي سادت ردحاً من الزمن وأثقلت كاهل المقاومة بعبء التفسير، يستحضر المفاهيم النظرية حول الطبيعة السياسية للعالم وفق سمات كل مرحلة: إبّان انهيار الاتحاد السوفياتي، استعارت مؤسسات الجيش الأميركي، مفهوم «عالم فوكا» (VUCA، أو الأحرف الأولى من كلمات: التقلّب الشديد، اللايقين، التعقيد والغموض)، الذي صاغه الاقتصاديان وارن بنيس وبيرت نانوس، في كتاب «استراتيجيات للقيادة» (1985). ساد المفهوم الشهير لسنوات كتفسير لطبيعة العالم الجديد، لكن بعد ثلاثة عقود، ومع جائحة كورونا، لفت الانتباه نقد جيمس كاسيو، الموجّه إلى «عالم فوكا»، إذ كان اجترح، في المقابل، مصطلح «عالم باني» (BANI WORLD)، أو الأحرف الأولى من: الهشاشة، القلق، اللاخطّية (لاسببية متناسبة)، صعوبة التفسير.

يكمن الفارق بين العالمين، أنّ في «باني» لا تدور المسألة حول إدارة المخاطر، بل التعايش اللايقيني المرن معها؛ وبالتالي تنجو هنا البنية المرنة، إذ تنكسر البنية الصلبة. بالمقارنة والتطبيق، نلحظ أنّ المقاومة في لبنان، في آخر عقدين، شهدت تصلّباً مطّرداً في بنيانها، ليس فقط على نحو أنها باتت قوة شبه نظامية وبالتالي أقل مرونة عسكرياً، إنما على صعيد النمو المتضخّم في بنيتها الاجتماعية يشكّل بالضرورة شبكة مصالح فردية وعامة مختلفة تستتبع تضخّم القلق الوجودي واستمراريته.

واليوم، في النقاش حول مواجهة تبدّل موازين القوى، يعلّق البعض سؤال الاستمرارية على سؤال الأمل (النابع من اليقين بالانتصار)، فيما الواقع أنّ هذا السؤال، ليس فقط قائماً على تلازم يقيني بين النتيجة والفعل، بل ينتمي إلى زمن سابق ويفترض أنّ البنية التي واجهت إسرائيل في السنوات الماضية ستظلّ على حالها وأنّ النتائج المرجوّة يجب أن تشبه سابقاتها، أو أنّ إسرائيل ستنجح في تأبيد تغوّلها ومعها موازين العالم ستظلّ إيّاها.

في إيران، تأخذ هذه النقاشات مساحات هذه الأيام، فمثلاً منذ حرب الـ12 يوماً، تنطلق حملة دُعيت بـ«تغيير الباراديم»، قادها كل من الرئيس الأسبق حسن روحاني ووزير الخارجية الأسبق جواد ظريف، وانضمّ إليها عشرات الأكاديميين. مشكلة هذه الحملة ليس في أنها استغلّت الحاجة إلى التفسير في مفصل التحوّلات، بل إنها في جوهرها محاولة لتغليب منطق المفاوضات الذي يؤيّده هذا الفريق. وهي بهذا، تقوم باستسهال مخلّ على الدعوة إلى تغيير إطار الفهم والعمل على أساس العودة إلى تجربة جُرّبت بالفعل، لا إلى حلول إبداعية وفهم صحيح لأسباب عدم قدرة إيران على تجنّب كل من الحرب والمفاوضات، على السواء، أو أسباب عدم النجاح فيهما.

لقد هزّت تداعيات «الطوفان» المنظور المستقرّ لمشروع المقاومة في ربع القرن الأخير من مسيرتها، نعم، لكنها لم تنهِ التاريخ كما يروّج دعاة البدائل المجرّبة وأصحاب مقولة «التكنولوجيا والأيديولوجيا»، وهي لم تهزّ سرديّة المقاومة نفسها كاستجابة طبيعية للإبادة والاحتلال والهيمنة، في أرض الواقع هناك لا في عالم المفاهيم المجرّدة. ما بعد «زمن الانتصارات» هو زمن جديد للمقاومة؛ لنبدأ من هنا.

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة