آخر الأخبار

مقبرة وحياة

92c9d1f5-3942-44e4-97ea-c24567b162bd-rdn68zqs2ygy3uulthn2t6axdieqskvmk9wvq7z4hc

أيهم السهلي

أنا من قرية بلد الشيخ الواقعة في الجنوب الشرقي من مدينة حيفا، وفي قريتي يوجد قبر جدّي الأول الشيخ الصوفي سهلي بن إبراهيم التميمي الداري، وهو بناء مقبب، مقام أقيم له بعد وفاته.

وفي قريتي أيضاً، قبر آخر، للشيخ عز الدين القسام، الشيخ السوري المنحدر من مدينة جبلة الساحلية في سوريا، وقد عيّن مأذوناً شرعياً للقرية عام 1930، إضافة إلى المحلة الغربية، والكبابير. وكان القسام يريد من هذه الوظيفة أن يتصل بالناس، ويتحدث إليهم، ليؤكد لهم، بأن الإسلام دستور حياة الناس اليومي ومرشدهم في كل أمورهم. وتُذكر حادثة، أن أفتى أحد مشايح حيفا بمنع الأعراس تحت حجة أن الطبل يجمع الشياطين. وعندما سئل القسام أجاب: «اعملوا عرساً واعزموني، فحتى الفرح يريدون إغلاقه؟ إذا لم يتنفس الشباب فكيف سيتحملون المسؤوليات الجادة».

هذه المادة، ليست تعريفاً بالقسام، ولا بقرية بلد الشيخ، لكنها عودة إلى يوم جنازة القسام، والأحداث التي جرت خلالها، فهذا اليوم الذي لا يعرفه إيتمار بن غفير الذي يعمل لإزالة القبر والمقبرة من مكانها، هو يوم يبدو أنه سيتكرر، في حال استمرت محاولة الاحتلال العبث بأوقاف هذه القرية، وأوقاف القرى الأخرى. وستعتمد معلومات هذه المادة على مرجع رئيسي، هو كتاب «الوعي والثورة، دراسة في حياة وجهاد الشيخ عز الدين القسام 1828 – 1935م» للباحث الراحل سميح حمودة.

تمكّن القسام أن يهيّئ الناس للثورة، ويرجح المؤرخون أن مجموعة أو عصبة القسّام بدأت بالتكوّن عام 1925، وبدأت عملها العسكري بعد عام 1929. وكان أفرادها قد انتقاهم القسام بعناية فائقة، وهم من المؤمنين، توسم بهم الشيخ خيراً، وقد وصفهم المؤرخ أمين سعيد «مما يستوقف النظر في دعوة الشيخ القسّام أنها اقتصرت على طبعة العامة من عمال وفلاحين» ويفسر ذلك بالقول: «ما ذلك إلا لأن الشيخ كان يرى الخير للغاية التي يعمل لها هو في هاتين الطبقتين: طبقة العمال من أهل المدن، والفلاحون لأنهما أخلص وأكثر انقياداً واستعداداً للبذل والتضحية، ولذلك حصر عملها في دائرتهما».

لم تنجح كل المحاولات لإزالة المقبرة، لا بحرثها، ولا بتمرير طريق فيها، وفي كل مرة كان الشعب الفلسطيني في الداخل هو الذي يتصدى لذلك

تدربوا على يد القسام، وعلى يد عناصر مؤهلة، ونفذوا عدداً من العمليات الناجحة، فكانت أولاها في 5 نيسان 1931، ضد مستعمرة الياجور في حيفا، فهاجموا قافلة سيارات تقل مستوطنين، فقتلوا 3 منهم، وعادوا جميعاً سالمين. وتتالت العمليات النوعية، كزرع القنابل داخل بيت أحد المستهدفين، وتفجيرها.
وظلوا يهاجمون، إلى أن جاءت معركة يعبد في 20 تشرين الثاني 1935، وأعطى القسّام لأفراد مجموعته التسعة أمرين، عدم الخيانة، وعدم إطلاق النار على أفراد الشرطة العرب، وإطلاق النار فقط على الشرطة الإنكليز. واستمرت المعركة في أحراج يعبد نحو أربع ساعات، من السادسة صباحاً حتى العاشرة.

استشهد القسّام في هذه المعركة، ومعه رفيقيه الشيخ يوسف الزيباوي، وسعيد عطيفة المصري، وجرح نمر السعدي بثلاث رصاصات، اثنتان في قلبه، فتدهورت حالته الصحية. أما البقية فسلموا أنفسهم، وهم أسعد مفلح الحسين (أسعد الكلش) الذي أصيب وظل مختفياً إلى أن سلّم نفسه بسبب آلامه الشديدة، وحسن الباير، وعربي البدوي، وأحمد الحاج، ومحمود اليوسف. كما استشهد أحمد الشيخ سعيد، ومحمد أبو قاسم خلف الذي استشهد في 17 تشرين الثاني 1935. وقتل من الإنكليز الشرطي «ج.ر.س موت»، وجرح الشرطي فرانك ريد في يده، أثناء محاولته مساعدة موت بعد إصابته. ولعل أمر القسام الثاني لجماعته، والتزامهم، بعد استهداف الشرطة العرب، هو السبب وراء قلة خسائر الإنكليز.

جنازة الشهداء

في يوم الجنازة أضربت حيفا، وحجت الناس إلى بيوت الشهداء، ونقلت جثث الشهداء إلى الجامع الكبير، فصلى عليهم وشيعهم نحو ثلاثين ألفاً بعد صلاة الظهر. انطلقت الهتافات الثورية بعد الصلاة، وحدثت مواجهات مع الشرطة الإنكليزية. كان من المقرر أن تقف الجنازة في حيفا عند بيت القسام. وأن تذهب النعوش في السيارات إلى مقبرة بلد الشيخ التي تبعد حوالى 5 كلم عن حيفا، لكن الحضور الكثيف رفض ذلك، ومشت الجنازة المسافة كلها، وبدأت منذ الساعة 12:00 – 3:30، والجماهير كثيفة، تهتف وتكبر. ووصلت الجنازة إلى المقبرة، فووري الشهداء ثرى قرية بلد الشيخ.

****

أخيراً لا بد من التوضيح، هذه ليست المرة الأولى التي يحاول فيها الاحتلال اقتلاع المقبرة المدفون فيها القسام ورفاقه، والمدفون فيها بعض من أهل قريتي، وبعض من شهداء ثورة 1936، والنقابي الفلسطيني الكبير سامي طه الذي شيعه الآلاف أيضاً عام 1947، عندما تم اغتياله بالرصاص.

بالعودة إلى الأرشيف الصحافي الفلسطيني وغيره، نجد مثلاً أن جريدة «الاتحاد» في عددها الصادر في 28 تموز 1978، خبراً عنوانه «السلطات تتراجع عن حرث مقبرة عز الدين القسام»، وفي سنوات أخرى عدة. لم تنجح كل المحاولات لإزالة المقبرة، لا بحرثها، ولا بتمرير طريق فيها، وفي كل مرة كان الشعب الفلسطيني في الداخل هو الذي يتصدى لذلك. وهذه المرة أيضاً سيهب أهل الأرض لحماية أرضهم، فاقتلاع الأموات من تحت الأرض، سيؤدي إلى اقتلاع الأحياء من فوقها.

* كاتب فلسطيني

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة