عمر نشابة
للوهلة الأولى، قد يظنّ البعض أن المفاوضات الجارية حالياً بين الدولة اللبنانية، ممثّلة بوفد سياسي وعسكري برئاسة السفير سيمون كرم، والكيان الإسرائيلي الممثل بوفد سياسي وعسكري برئاسة نائب المدير لشؤون السياسة الخارجية في المجلس الأمني القومي الإسرائيلي أوري ريسنيك، هي مجرد محادثات لمتابعة وتنفيذ وقف إطلاق النار والحد من التصعيد وليست مفاوضات للتوصل إلى اتفاق سلام. ويدعي البعض أن هذه المفاوضات تختلف بشكل جذري عن المفاوضات التي جرت عامَي 1982 و1983 والتي أدّت إلى توقيع اتفاق 17 أيار 1983. لكن، بعد مراجعة الوقائع وتسلسل الإجراءات بين عامَي 1982 و1983 يتبيّن أن الهدف الأميركي المركزي للمفاوضات بين لبنان و«إسرائيل» لم يتغيّر، بل كان ولا يزال التطبيع الكامل مع «الدولة العبرية» وإلغاء كل العقبات والتنازل عن كل الحقوق والمطالب التي تحول دون ذلك.
لم تسمح الظروف الإقليمية والدولية في مطلع الثمانينيات بالتوصل إلى تطبيع العلاقات اللبنانية الإسرائيلية بشكل كامل واقتصر الاتفاق على «إنهاء حال الحرب» وانسحاب الجيش الإسرائيلي (بشكل مشروط بترتيبات أمنية) وإنشاء منطقة أمنية في الجنوب (ما اعتُبر عملياً نوعاً من أنواع الاعتراف بـ«إسرائيل») وتشكيل لجنة أمنية مشتركة بإشراف أميركي والتزام لبنان بمنع أي نشاط عسكري ضد إسرائيل انطلاقاً من أراضيه.
لكن الظروف تغيّرت اليوم حيث لم تعد معظم الدول العربية معادية للكيان الإسرائيلي: مصر كانت قد وقعت على «اتفاق سلام» (كامب دايفد – 1978) وكذلك الأردن (وادي عربة – 1994) ومنظمة التحرير الفلسطينية (أوسلو – 1993)، وأبرم اتفاق «أبراهام» (2020) الذي يضم الإمارات والبحرين والمغرب والسودان والذي يهدف إلى تطبيع العلاقات الديبلوماسية والاقتصادية بين إسرائيل والدول العربية الموقعة، والتعاون في مجالات متعددة: التكنولوجيا، التجارة، الصحة، السياحة، الأمن، والعلوم، ومواجهة نفوذ إيران في المنطقة، وتشكيل «أجندة استراتيجية للشرق الأوسط» بالتعاون مع الولايات المتحدة.
ولم يخف الرئيس الأميركي دونالد ترامب وأركان إدارته الهدف الأميركي بضم لبنان إلى اتفاق «أبراهام» لكن يبدو أنهم تعلموا الدرس من المرة السابقة يوم أسقط لبنانيون اتفاق 17 أيار بدعم السوريين ومساعدتهم. وتنبهوا إلى أن ضم لبنان إلى اتفاق «أبراهام» لن يكون ممكناً قبل ضم سوريا إلى الاتفاق وهو ما يسعى إليه حالياً (بصعوبة) المبعوث الأميركي توم برّاك. ولحين تطبيع الدولة السورية علاقاتها مع إسرائيل بشكل كامل يبقى الهدف الظاهر من المفاوضات الجارية هو إعادة ترتيب لبنان سياسياً وأمنياً ليخدم أمن إسرائيل؛ علماً أن مطالبة الأميركيين بإضافة مدنيين وسياسيين إلى الوفد اللبناني المفاوض يشكل بداية تطبيع العلاقة.
لكن لا بد من العودة إلى ما حصل عام 1982 خلال المرحلة الأولى من التفاوض لأن هذه المرحلة كان لها أثر مركزي على مسار المفاوضات اللاحقة التي استمرت من كانون الأول 1982 حتى الإعلان عن اتفاق أيار 1983.
في 6 تشرين الثاني 1982 ربط مسؤولون إسرائيليون بدء المحادثات اللبنانية الإسرائيلية بموافقة لبنان على رفع مستوى اللجنة التي ستجريها وقد تكرر هذا الأمر قبيل بدء المفاوضات القائمة حالياً حيث طالب الأميركيون والإسرائيليون بتعيين مسؤول مدني على رأس الوفد اللبناني. وكُلّف السفير سيمون كرم بلعب الدور الذي كان يلعبه السفير أنطوان فتال.
في 8 تشرين الثاني 1982 رفضت «إسرائيل» عرضاً لبنانياً لإجراء المفاوضات في الناقورة وأصرّت على إجرائها في القدس المحتلة. وفي اليوم نفسه عاد المبعوث الأميركي موريس درايبر إلى بيروت من «إسرائيل» والتقى وزير الخارجية إيلي سالم (الذي يسعى وزير الخارجية اليوم إلى لعب دوره لكن من دون أن يتمتع يوسف رجي بالحد الأدنى من خبرة ومكانة سالم خصوصاً بما يخص علاقته بالأميركيين) وأبلغه الرؤية الإسرائيلية للمفاوضات المرتقبة والتحفظات حيال العقبات أمام انطلاق قطار التطبيع ومن بينها مكان التفاوض والطابع العسكري للمفاوضات.
وفي 10 تشرين الثاني لم يُعقد الاجتماع الأول للجنة الاتصالات اللبنانية الإسرائيلية الذي كان مقرراً بسبب رفض الجانب الإسرائيلي أن تقتصر المفاوضات على جدول الانسحاب من لبنان وعلى شؤون عسكرية وأمنية بينما يصرّ الإسرائيلي على انطلاق مسار تطبيع العلاقات بالكامل. فغادر المبعوث الأميركي درايبر لبنان إلى «إسرائيل» لتذليل العقبات. لكن وزيري الخارجية والدفاع الإسرائيليين إسحق شامير وأرييل شارون أصرّا على رضوخ لبنان لمطلبهما الواضح والصريح بالتطبيع مع الدولة اللبنانية التي يشغل فيها أمين الجميل، شقيق حليف «إسرائيل» الأول في لبنان، منصب رئيس الجمهورية. لكن ما الذي دفع الإسرائيليين إلى تغيير موقفهم وقبول الاستعاضة عن التطبيع بإنشاء منطقة أمنية في الجنوب وتشكيل لجنة أمنية مشتركة بإشراف أميركي والتزام لبنان بمنع أي نشاط عسكري ضد إسرائيل انطلاقاً من أراضيه؟
في 11 تشرين الثاني 1982 زلزلت الأرض في شمال فلسطين المحتلة على وقع تفجير ضخم في قاعدة عسكرية استخباراتية للاحتلال الإسرائيلي في مدينة صور. حيث قام المجاهد أحمد جعفر قصير، ابن بلدة دير قانون النهر، بعملية استشهادية بطولية بعد أن اجتاز الحواجز الأمنية، وفجّر مبنى مقرّ الحاكم العسكري الإسرائيلي المؤلف من 8 طبقات والذي يحتوي على مكاتب تابعة لمخابرات جيش الاحتلال، فيما خصص أحد الطوابق كمقر لوحدة تتبع للقيادة العسكرية في المنطقة، والطابق الرابع كمقر لمبيت 141 ضباطاً وجندياً.
بعد يومين من العملية الاستشهادية (13 تشرين الثاني) دعا الرئيس الأميركي رونالد ريغان «إسرائيل» إلى تسهيل المفاوضات. وفي اليوم نفسه بثّت الإذاعة الإسرائيلية أن المفاوضات مع لبنان يمكن أن تبدأ «قريباً جداً» معتبرة أن المبعوث الأميركي «حقّق أوّل نجاح في مهمّته». وفي 18 تشرين الثاني وصف وزير الخارجية الأميركي جورج شولتز فكرة توقيع معاهدة سلام بين لبنان وإسرائيل بأنها «فكرة غير واقعية» علماً أن «فكرة الولايات المتحدة الأميركية كانت تستهدف أصلاً السعي إلى مثل هذه المعاهدة». وصحيح أن المفاوضات استمرت بعد ذلك وكلف فتال برئاسة الوفد اللبناني ووقع اتفاق 17 أيار لكن لا شك أن العدو الإسرائيلي تراجع عن إصراره على التطبيع واستعجل التوصل إلى اتفاق بعد عملية أحمد قصير الاستشهادية.