آخر الأخبار

الإعلام الفلسطيني وتحدي الخطاب: من الداخل إلى العالم

drWzh

️ تحقيق – عصام الحلبي

الإعلام، في جوهره، ليس مجرد وسيلة لنقل الخبر أو تعليق على الحدث، بل هو رسالة تحمل في طيّاتها أبعادًا إنسانية وأخلاقية ووطنية وتكريس للحق، وتنهض بمسؤولية تتجاوز الترف المهني إلى عمق الوعي الجماعي وصياغة هوية الشعوب. حين نتحدث عن إعلام حقيقي، فنحن لا نقف عند تقنيات البث أو جماليات الصورة، بل نغوص في سؤال ما الغاية؟ وما الأثر؟ وما الحقيقة التي يُراد لها أن تبقى حية في الذاكرة العامة أو الجمعية؟

الإعلام بين الدور والغاية… من المعلومة إلى الوعي

يُفترض بالإعلام أن يؤدي دورًا مزدوجًا ،إخبار الناس’ الجمهور المتلقي’ بما يحدث، وفي الوقت نفسه تفسير السياقات وتقديم المعنى. الإعلام ليس نشرة أخبار ولا مادة استعراضية، بل أداة وعي وثقافة ومقاومة وبناء. وكلما كانت الرسالة الإعلامية ناضجة ومباشرة ومشبعة بالمعنى، كلما لامست الوجدان وحرّكت العقل معًا.

وهنا تبرز الحاجة إلى الابتعاد عن تضييع المادة الإعلامية بين الظهور الشخصي والمحتوى، فالإعلامي ليس نجم شاشة بقدر ما هو ناقل لرسالة. حين تطغى صورة المُقدِّم على مضمون الخطاب، يُفرغ الإعلام من محتواه ويتحوّل إلى عرضٍ شخصي ذاتي، لا إلى صوت لقضية.

السردية والهوية… معركة لثبات المعنى

في صلب كل خطاب إعلامي، هناك معركة سردية. بين الفلسطيني الذي يحمل ذاكرة نكبة وحقًا في التحرير و التحرر، وبين الاحتلال الذي يسعى لتزييف التاريخ وتشويه الجغرافيا وطمس الحقيقة، تنشأ معركة الهوية. الإعلام هنا ليس محايدًا، بل هو خط المواجهة الأول بين السردية الفلسطينية الأصيلة، وسردية الاحتلال المزيفة المعلّبة والممولة والموجّهة.

الإعلام الفلسطيني مدعوٌ إلى خوض هذه المعركة بلغة ذكية، وبمضمون عميق، لا بتكرار شعارات مُستهلَكة. وعليه أن يُعيد إنتاج الحكاية الفلسطينية من منظور تاريخي وطني إنساني وعادل، بعيدًا عن الحشو والتكرار، مركزًا على جوهر الرواية، لا زوائدها.

ثلاثية الرسالة الإعلامية… التأثير والوعي والهوية

الرسالة الإعلامية الحقيقية تُبنى على ثلاثية مترابطة:

1. التأثير في الرأي العام. الإعلام قادر على تحويل حدثٍ عابر إلى قضية رأي عام إذا ما أحسن صوغه.

2. تكوين الفكر والثقافة الجمعية، الرسائل الإعلامية المتراكمة تصنع الثقافة السياسية والاجتماعية للشعوب.

3. تثبيت الهوية الوطنية، من خلال سرد متماسك وواعٍ لجذور الصراع وحق العودة وكرامة الإنسان الفلسطيني.

الإعلام الفلسطيني بين الإبداع والإخفاق

شهد الإعلام الفلسطيني محطات مشرقة، كما حدث خلال الانتفاضتين، أو أثناء كشف جرائم الاحتلال في غزة، حيث نجح في تقديم الضحية كإنسان لا كرقم. لكنه أخفق في أحيان كثيرة حين غرق في الخطابات الفصائلية، أو حين سمح للمنابر أن تصبح أبواقًا لا منابر.

كما أنه لم ينجح دائمًا في مواكبة معركة السردية عالميًا، حيث لا تزال الرواية الإسرائيلية تتقدّم بلغة احترافية موجهة للعالم، بينما تفتقر الرسالة الفلسطينية غالبًا إلى التنسيق والإقناع المتقن.

الإعلام الحركي .. بين الدائرة التنظيمية والعالم المفتوح

الإعلام الفلسطيني الحركي له مهمة مزدوجة أن يخاطب الداخل التنظيمي بروح تعبويّة واضحة، وأن يُخاطب في الوقت نفسه الحاضنة الشعبية والمجتمع الدولي بلغة تُقنع لا تُنفّر، وتوضح لا تُملي.
ولتحقيق ذلك:
الابتعاد عن الخطاب المغلق واللغة التقريرية الجامدة.

تعزيز المهارات الاتصالية لدى الكادر الإعلامي.
إنتاج محتوى يُخاطب العالم بلغته، لا بلغة الخصومة فقط.
أنسنة الخطاب وقوننته: بين شرعية الحق وبلاغة الرسالة

أنسنة الخطاب الإعلامي الفلسطيني لا تعني تلطيفه أو تغليفه بلغة عاطفية، بل تعني تأصيله في مبادئ حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية، عبر استعمال وثائق ومواد وبروتوكولات حقوق الإنسان كمرجع أخلاقي ومهني وسياسي.
فبدل أن يتحدث الإعلام بلغة الانفعال أو رد الفعل، يمكنه أن يُبرز جرائم الاحتلال باعتبارها انتهاكًا واضحًا للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، أو خرقًا لاتفاقيات جنيف، وأن يُظهر معاناة الأطفال الفلسطينيين كقضية “حق في الحياة”، لا فقط “ضحية حرب”.
أما قوننة الخطاب، فهي ليست ترفًا حقوقيًا، بل سلاح شرعي في معركة الوعي والسردية. إنها تعني اللجوء إلى القانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة، وتوصيات مجلس حقوق الإنسان، ومحكمة العدل الدولية، من أجل تثبيت الرواية الفلسطينية على أرضية القانون لا العاطفة فقط.
فعندما يتحدث الإعلام الفلسطيني عن الاحتلال والاستيطان والاعتقال الإداري، ينبغي أن يستند إلى النصوص القانونية التي تُدين هذه الممارسات وتُثبت عدم شرعيتها، مما يُكسب الرسالة الإعلامية صدقيّة مضاعفة، أمام العالم والرأي العام الدولي.

الأنسنة تُكسب الرسالة بُعدها الإنساني الأخلاقي، والقوننة تُكسبها شرعية دولية لا يمكن إسقاطها بمنطق القوة. وهذان المساران معًا يجعلان من الإعلام الفلسطيني فاعلًا ، ومبادرًا لا متلقيًا، وقادرًا على مساءلة الخصم أمام العالم بدل الاكتفاء بندب الظلم.

بين النظرية والتطبيق… ماذا يقول أهل الإعلام العرب وفي الغرب؟

حيث قال المفكر الكندي مارشال ماكلوهان إن “الوسيلة هي الرسالة”، فالإعلام لا يكتفي بصياغة المضمون، بل يشكّل بنية الإدراك الجماعي من خلال الوسائط التي يستخدمها.
ويؤكد الإعلامي والباحث السوري د. إبراهيم عزوز أن “الإعلام العربي يعيش أزمة مزدوجة، أزمة مضمون وأزمة جمهور. والمطلوب هو خطاب يتجاوز التبعية وينتج سرديته الأصيلة بلغة العصر”. ويرى أن الإعلام الفلسطيني بحاجة إلى “خروج من الخطابات الشعارية والدخول في خطاب إنساني قانوني يخاطب الآخر بلغته لا بلغتنا فقط”.

أما الخبير الإعلامي المصري د. صفوت العالم، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، فيرى أن “قوة الإعلام ليست فقط في ما يقوله، بل كيف يقوله، ولمن يُوجّهه. نحن بحاجة إلى إعلام فلسطيني يُخاطب العالم بخطاب يُقنع لا يُندّد فقط”. ويشدد على أن “كل مادة إعلامية يجب أن تُبنى على ثلاثية: حق إنساني، سند قانوني، وأثر عاطفي محسوب”.
ويعتبر الباحث المغربي في سوسيولوجيا الإعلام د. محمد العوني أن “الإعلام الذي لا ينطلق من قضية عادلة يتحول إلى دعاية، أما القضية العادلة التي لا تحسن إدارة خطابها الإعلامي فتخسر تعاطف العالم”. ويضيف أن “الإعلام الفلسطيني مطالب ببناء سرديته على أرضية حقوقية، قانونية، ومبدئية، وليس فقط على ردود الفعل أو صور المجازر فقط”.

ومن فلسطين، يقول الباحث الإعلامي د. نشأت الأقطش، أستاذ الإعلام بجامعة بيرزيت: “لدينا قضية عادلة ولكننا لا نُجيد التسويق لها إعلاميًا. نحتاج إلى تدريب إعلاميين على فن التأثير في الغرب، وعلى فهم آليات الإعلام العالمي الذي لا تعنيه العواطف بقدر ما تعنيه الوقائع والأطر القانونية”.

ويُلخص الإعلامي التونسي د. عبد اللطيف الحمومي جوهر القضية بقوله: “لا يكفي أن تكون محقًا كي تُسمع، بل يجب أن تُتقن لعبة المعنى، ومهارة الصياغة، وأنسنة الصورة، وقوننة الخطاب. الإعلام لا ينتصر بالانفعال بل بالشرعية المقنعة”.

على المستوى الدولي، يشدد المفكر الفرنسي إدغار موران على أن “الإعلام يجب أن يكون ضمير البشرية لا صدى المصالح”، وهو تعبير عن الحاجة إلى إعلام إنساني وموضوعي.

ويُبرز الأستاذ الأمريكي نوام تشومسكي أن “الإعلام يُستخدم كأداة للتحكم في الرأي العام وليس فقط لنقله”، مشيرًا إلى أن “الرسائل الإعلامية القوية هي التي تملك أدوات التأطير القانوني والأخلاقي”.

أما الإعلامية البريطانية سوزان ستراوس فتؤكد أهمية “التواصل القائم على الحقوق والشفافية” معتبرةً أن “الخطاب الإعلامي الذي يتجاهل القوانين والحقوق يفقد مصداقيته وقوته”.

يقول الأكاديمي الألماني يورغن هابرماس، مؤسس نظرية الفعل التواصل، إن “الإعلام يجب أن يكون فضاءً للحوار العقلاني والشفاف، لا مجرد نقل للرسائل”.

من الإعلام إلى الفعل

في النهاية، الإعلام الفلسطيني ليس ترفًا ولا واجهة، بل ضرورة وجودية في معركة التحرر. إن خسرنا السردية خسرنا الأرض مرتين، مرة بالاحتلال، ومرة بالنسيان.
الإعلام الحقيقي لا يُجمّل الواقع، بل يُعبّئ الوعي ويدافع عن المعنى.
فإما أن نمتلك خطابًا يخاطب العالم ويُقنعه، أو نظل أسرى النشرات التي لا يسمعها أحد.

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة