أسعد أبو خليل
حرب الإسناد: السريّة والفرضيّات الخاطئة
الكثيرُ من مشكلات الحزب في حرب الإسناد تتعلّق بالسرّية أو بانخفاض منسوبها. طبعاً، الحزب في بداياته كان أفضل تجربة لحزب أو منظّمة معنيّة بالقضيّة الفلسطينيّة في الحرص على السرّية المطلقة. هذا حزب لم نعلم عن وجوده إلّا بعد أن أعلن هو وجودَه بعد سنوات من تشكيله. هذا حزب لم نكن نعرف أسماء مؤسّسيه. هي تجربة في السرّية افتقدتها الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة في تاريخها. كلّ المنظّمات الفلسطينيّة، في حقبة الأردن وفي حقبة لبنان، أهملت العمل السرّي.
هناك استثناءات: بعد وفاة وديع حدّاد، اكتشفت الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، في عددها الخاصّ عنه في مجلّة «الهدف»، أنّه لم يترك وراءه صوَراً على الإطلاق. لم يسمح بها في حياته الخاصّة. أفراد عائلته لم يلتقطوا صوَراً له. بين القلّة من الصور، اثنتان يظهر فيهما متنكّراً. حدّاد أدرك أهمّية العمل السرّي وكان في سنواته في الجبهة يعترض على إهمال السرّية في العمل.
عندما سمع في اجتماع قيادي أنّ هناك مَن يتحدّث عن سفر جورج حبش أدرك أنّ الموساد لا بدّ وأن يعرف، وبسبب ذلك مُنع حبش من استقلال الطائرة إلى بغداد في تلك الرحلة الشهيرة في شباط 1973. خلافاً لذلك، مسؤولٌ في العمليّات الخارجيّة (السرّية) في الجبهة كان يُعلِم أصدقاءه عن مواعيد رحلاته إلى أوروبا واغتيلَ في بلد أوروبي بعد ذلك.
حركة «فتح» جعلت من السرّية مسخرة، لأنّ الاستعراض والانفلاش والتهريج كانوا من سِمات العمل التنظيمي لياسر عرفات. أحمد جبريل، حتى إشعال الحرب الأهليّة اللبنانيّة، كان أيضاً ملتزِماً بالسرّية المطلقة ولم تكن هناك أيّ صور له في الإعلام.
حزب الله كان تجربة مختلفة بالكامل. حزب الله انطلق في مرحلة كان فيها التعاطف مع إسرائيل في اجتياحها في صيف 1982 سائداً، وكانت هناك مطاردة وحشيّة للمقاومين من قِبل جيش العدوّ والجيش اللّبناني في حُكم أمين الجميّل.
لم تكن البيئة مُتعاطِفة يومذاك (تغيّرت أهواء الشيعة نحو إسرائيل في غضون سنة واحدة فقط. وكنتُ في صيف 1982 أقول للمُرحّبين في منطقة صور باجتياح إسرائيل إنّهم سيُغيّرون مواقفهم بحلول موسم البرتقال المقبل). أي إنّ السرّية كانت ضرورة قصوى وليست ترفاً. كان مشروع المقاومة يحظى بتأييد أقلّية صغيرة جدّاً في لبنان، وكانت الحركة الوطنيّة قد اختفت من الوجود، كما إنّ الكثير من عناصر الحركة عارضوا مشروع المقاومة العسكريّة (يكفي أن تعود إلى تلك المدة، وقرار محسن إبراهيم بمنْح فرصة لحُكم أمين الجميّل والمراثي التي توالت من قيادات في الحركة الوطنيّة بعد اغتيال بشير الجميّل).
كانت إسرائيل (وأميركا أيضاً) تحارب أشباحاً في لبنان. لم نسمع باسم عماد مغنية في الصحافة الغربيّة أو اللّبنانيّة إلّا في أواخر الثمانينيّات (لعلّ «الشراع» في لبنان كانت أوّل من ذكرَته، لكنّني لستُ متأكّداً من ذلك). والحزب حافظ على سرّية وجوده لسنوات طويلة، وهذه بحدّ ذاتها نجاح كبير في الحفاظ على السرّية التنظيميّة والعسكريّة. كان مغنية يجول في لبنان ويلتقي بعناصر (وعدد قليل من السياسيّين اللّبنانيّين) من دون أن يعرف أحد منهم إلّا قلّة حقيقة هويّته.
والسرّية هي عنصر أساسي في انطلاق الحزب وديمومته. أعلن الحزب عن وجوده في تلك الرسالة المفتوحة في شباط 1985 لأنّ البيئة المُحيطة بالحزب أصبحت مُناصرة لمشروع المقاومة العسكريّة (حتى لا نخلط بين المقاومة العسكريّة والمقاومة الديبلوماسيّة والإعلاميّة والثقافيّة التي يدعو إليها فؤاد السنيورة وأسامة سعد). السرّية هي التي حمَت التنظيم في فترة الصعود.
تغيّر كلّ شيء بعد دخول الحزب في الانتخابات النيابيّة في عام 1992. هنا، العمل السياسي المباشر يحتاج إلى حركة وتواصل مستمرَّين مع الناس. والذي يرصد نوّاب الحزب يستطيع أن يصل إلى مركز القيادة لِما هناك من حاجة إلى التواصل المُستمرّ. هنا تغيّر الحزب من حزب النُّخبة السرّية إلى حزب الجماهير الشعبي. هذا لا يعني أنّ فعاليّة المقاومة تقلّصت في تلك المدة.
كان هناك دوماً حديث عن القِسم «الجهادي» مقابل القِسم السياسي وعدد من الدول الأوروبيّة، في قراراتها في حظْر الحزب أو عدم حظْره، كانت تعترف وتأخذ (قانونيّاً) بالفارق بين القسمَين. بالنسبة إلى أميركا، وحسب أوامر إسرائيل، ليس هناك من تمييز. كما إنّ كلّ أعضاء منظّمة التحرير ومناصريها كانوا إرهابيّين، فإنّ كلّ عناصر الحزب ومؤيّديه – حتى لو لم يحملوا بندقيّة – هُم مِن الإرهابيّين. الإرهاب في الحسبان الصهيوني هو موقف سياسي. هذا يفسّر اندفاعة اللّوبي الإسرائيلي في احتضان أحمد الشرع فقط لأنّه ودودٌ في سياساته نحو إسرائيل، ولأنّه تطوَّع بمحاربة كلّ أعداء إسرائيل في المنطقة.
هل كانت القيادة العسكريّة تحتاج إلى دم شبابي جديد كما يحصل في كلّ التنظيمات العسكريّة، وبخاصّة أنّ الشباب أكثر دراية بشؤون التكنولوجيا الحديثة؟
إذا كان هناك من لجان تحقيق في الحزب تقوم بإجراء مراجعات تفصيليّة لكلّ مسار تاريخ الحزب، وبخاصّة من زاوية السرّية، فهي لا بدَّ أن تفصل بين مراحل مختلفة. كيف أنّ حرب تمّوز أثبتت فذاذة الجمع بين مهارة في الإعلام والمقاومة العسكريّة وفي السرّية أيضاً. إسرائيل لم تصل إلى أيٍّ من قادة الحزب في تلك الحرب، وسخِرنا جميعاً عندما خطف العدوّ مواطناً من بعلبك لأنّ اسمه حسن نصرالله. قلنا إنّ عدوّنا جاهل لدرجة أنّه يظنّ أنّ هناك حسن نصرالله واحد.
العمليّة كانت غريبة وعندما أنظر إليها اليوم أستغربُ أكثر وأتساءل إذا ما كان العدوّ أرادنا أن نستخفّ بقدراته الاستخباراتيّة عن قصد من وراء تلك العمليّة الغبيّة. هل أنّ إسرائيل أسهمت في دفع الحزب نحو الثقة المفرطة والاعتداد بالنفس عسكريّاً واستخباراتيّاً؟ هذا لا ينفي مظاهر غباء وجهل عند استخبارات العدوّ، وهناك أمثلة مختلفة، لكنّ استخبارات العدوّ كانت على درجة عالية من المعرفة والمتابعة والفعاليّة في الحرب الأخيرة.
هنا يجب أن نزيد أنّ الحرب الأخيرة لم تكن إسرائيليّة فقط، بل جَماعية غربيّة: تسابقت أميركا وبريطانيا وأستراليا وفرنسا وألمانيا كي تزوّد العدوّ بما يحتاجه من معلومات استخباراتيّة ومعدّات عسكريّة يحتاجها للقضاء على حزب الله (كما أسهمت أنظمة الخليج في الدعْم الاستخباراتي).
إنّ حالة الاسترخاء والانفلاش التنظيمي تكون نتيجة عدد من العوامل:
1) الشعور الفائق بالقوّة بمنسوب يفوق حجم القوّة الحقيقيّة. في الإنكليزيّة هناك كلمة «هوبرِس» وليس لها من مرادف في اللّغة العربيّة. الأصل من الإغريقيّة وعنت الوقاحة أو الصلف أو العنف العشوائي. لكنّها اكتسبت معنى دينيّاً أيضاً عند الإغريق لأنّها تحدّثت عن التكبّر في تحدّي الآلهة.
المصطلح استُعمل عن الحرب الأميركيّة على العراق. انتشت إدارة بوش بالحرب ضدّ البلد الفقير والمُحاصر أفغانستان وافترضت بسبب غرورها أنّ غزو العراق واحتلاله سيكونان نزهة مريحة. لا نستطيع أن نُجري مقارنة مع حالة الحزب، لكنّ حركات التحرّر الوطني يمكن أن تعاني من الشعور الفائق بالقوّة والمناعة. منظّمة التحرير سارعت إلى الشعور بالقوّة الكبيرة بعد معركة الكرامة في عام 1968 (وطمست لأسباب دعائيّة دَورَ الجيش الأردني فيها). عرفات تعامل مع الموضوع على أنّه دليل على صعود المقاومة.
لا يمكن عزْل هذا الشعور بما جرى في أيلول الأسود. استرخى عرفات كثيراً في عام 1982 قبَيل الاجتياح وصاح صيحته الشهيرة «أهلاً بشارون» مع أنّ أداء القوات المشتركة في 1978 كان كارثيّاً (بسبب قيادة عرفات نفسه وتعييناته التي تعتمد على الولاء المُطلق وليس على الكفاءة).
الحزب تجربة مختلفة. والأمين العام التاريخي للحزب جعل من دراسة إسرائيل والصهيونيّة روتيناً يوميّاً. كان يعلم بقدرات العدوّ رغم أنّ شعار «أوهن من بيت العنكبوت» أُسيء فهمه على الأرجح مِن قِبل القاعدة (أسلفتُ في الحديث عن ذلك من قبل). وقعنا جميعاً أسرى هذا التفسير المتسرِّع وصرنا نترقّب تحرير فلسطين في أوّل اشتباك بين قوات المقاومة وقوّات العدوّ. لكنّ السرّية تراخت. صحيح أنّ الأمين العام للحزب أصبح بعيداً من التواصل والتحرّك العلني كما كان الوضع قبل حرب تمّوز، لكنّه بقي يلتقي مع كثيرين. ليس صعباً على إسرائيل وعملائها المزروعين رصْد واحد أو غير واحد من الزائرين.
واستعمال الهواتف، الأرضيّة والخليويّة، كان سائداً جدّاً في أوساط الحزب. نرى ذلك على المواقع. الصور وشرائط الفيديو التي تنتشر عن اجتماعات وزيارات للقادة العسكريّين في الحزب كثيرة جدّاً. كلّ صورة أو فيديو على الهاتف أو على كاميرا متّصلة بالإنترنت مفتوحة للرصد على مدار الساعة من قِبل إسرائيل وحلفائها. هل أنّ التراخي ارتبط بالحرب السوريّة وإصرار المقاتلين على تصوير المعارك وتصوير أنفسهم هناك؟ كما إنّ مشاهد الدفن والتعازي كانت منتشرة جداً. وأبرز القادة العسكريّين كانوا يعيشون مع الناس وبين الناس ويرتادون الجوامع للصلاة مع الناس، وكانت الناس تعرفهم وتنتظرهم. لماذا حدث هذا التراخي وما سببه؟
وهل أنّ القائد العسكري المخضرم بعد سنوات من العيش السرّي والمتكتّم يصل إلى مرحلة يشعر معها بالسأم، وبخاصّة بعد زيادة عدد أفراد العائلة مع ولادة الأحفاد؟ هل كانت القيادة العسكريّة تحتاج إلى دم شبابي جديد كما يحصل في كلّ التنظيمات العسكريّة، وبخاصّة أنّ الشباب أكثر دراية بشؤون التكنولوجيا الحديثة؟ حتى ياسر عرفات، كان يُطعِّم القيادة بدم شبابي جديد (وإنْ كان كعادته، وكما قال عنه ديفيد هرست الذي رحل أخيراً يولّي الولاء والطاعة له على الكفاءة).
لكنّ موضوع السرّية والاختراق يحتاج إلى التمييز بين نوعَين من الاختراق: البشري والإلكتروني. إعلام العدوّ يريد أن يبالغ في مدى الاختراق البشري وصحيفة «يديعوت أحرونوت» طلعت بمقالة طويلة خياليّة عن اغتيال نصرالله وعن عملاء مزروعين، وكلّ ذلك لزرْع الشكّ بين صفوف الأعضاء والقادة في الحزب ومن أجل تعظيم قدرات الموساد (وتطوّعت محطّة «الجديد» الإماراتية المشبوهة بنشْر تقرير عن الأصل الإسرائيلي لتعميم الضرر). ويريد العدوّ أن يقلّل من شأن الاختراق الإلكتروني من أجل التسبّب في تغافل وإهمال من قبل القادة والأعضاء في الحزب في التعامل مع الأجهزة الإلكترونية.
أمّا الحزب، فالخشية أن يبالغ في موضوع الاختراق الإلكتروني ولا يُجري تحقيقاً عميقاً حول الاختراق البشري مستعيناً بتحقيقات واستجوابات. إنّ العقل الاصطناعي لا يعمل من دون عقل بشري: و«تشات جي بي تي» وغيره من «نماذج اللّغات الواسعة» يحتاج إلى عقل بشري لتصنيف المعلومات وتعقيبها، وإلّا لا تكون ذات فائدة للعقل الاصطناعي. الاختراق لا بدّ أن يكون مزدوَجاً لأنّ هناك من أمدّ العدوّ بمعلومات عن الهيكليّة التنظيميّة للحزب، وقد لاحظتُ في الصيف في لبنان أنّ كثيرين – حتى من خارج الحزب – كانوا على اطّلاع على الهيكليّة التنظيميّة للحزب.
(يتبع)