آخر الأخبار

في ظلال الطوفان… نحصي المسافة بين الحنين والخذلان

1

سجود عوايص

على بُعد آلاف الأميال من فلسطين، تقع غُربتنا. تُشرق علينا شمس النهار قبلها بست ساعات، ويصلنا الخبر عادة قبل النيام من أهلها، ومعه تتضاعف حسرتنا ومرارة غربتنا، مهما كان نوع الخبر. ولذا، كان السابع من أكتوبر إحدى أعظم مراراتنا، نحن المغتربين الذين رأوا البلاد تعود في لحظاتٍ بعيداً عنهم.

ما زلت أذكر جيداً ظهر السابع من أكتوبر، حين أتانا النبأ لأول مرة، كان العنوان «القسام يقتحم الأراضي المحتلة». ولأننا لم ندرك أيّ أراضٍ محتلة اقتحمها «القسام»، لجأنا إلى الفضائيات العربية، التي كانت تتشارك معنا الحيرة نفسها ودهشة الخبر ذاته. تعلّق في ذاكرتي، من تلك اللحظات، رائحة العجين ومناقيش الزعتر التي كنت أخبزها لعائلتي، مُحاوِلةً جسر شيء من البعد مع البلاد.

في مرحلة سعينا وراء المعلومة، هرولنا بين الفضائيات العربية والأجنبية وحتى القنوات الإخبارية الخاصة بالاحتلال. كنّا نحاول فهم ما جرى ويجري، وكانت خيبة عدونا وصدمته تزيداننا بهجة، فيما بدا أن صخب مشاعرنا يقتصر علينا وحدنا، بينما تواصل ماليزيا يوم إجازتها الأسبوعية بهدوء ودعة.

رحلة تحوّل المشاعر انتقلت سريعاً من البهجة إلى «الله يستر»؛ فقد كان السابع من أكتوبر بداية حربين، واحدة في غزة وأخرى في صدورنا نحن المغتربين، ومع توارد المواقف الدولية المنسجمة مع ردّ الفعل الأميركي، أصبح من الواضح أن فلسطين وحدها وأن العالم لا يرى فينا سوى الفلسطينيين المكلومين المستهدفين برصاص وأسلحة المحتل، بينما الفلسطيني الثائر المبادر لا مكان له في الوعي الرسمي ولا الشعبي، لا عربياً ولا إسلامياً، وربما حتى ولا فلسطينياً، وأن الخطاب المتضامن معنا هو ذلك الذي «يدين العنف بكل أشكاله» في مقابل آخر «يدين حماس فقط»!

لذا، قوبل السابع من أكتوبر بأسئلة كبيرة بلا جواب: «ماذا فعلتم؟ لماذا بادرتم؟ لماذا نكشتم عش الدبابير؟ لماذا الآن؟»، فيما سارعت الأجهزة الأمنية الحكومية لوضع سياسات تُحدّد سقف التظاهر، وطبيعة الحراك الشعبي واتجاهاته، وتؤكد أهمية غياب الفلسطينيين عنه، وتشديد العين الأمنيّة عليهم، في مقابل رفع مستوى الإجراءات الأمنية لحماية السفارة الأميركية والسفارات الغربية.

لا يقتصر ذلك على ماليزيا وحدها، بل يمتد إلى تركيا والدول العربية والإسلامية الأخرى، التي كانت تتباهى بمواقف رسمية وشعبية مساندة للفلسطينيين، بينما أحوجتها صدمة السابع من أكتوبر إلى الانحناء خوفاً من الغول الأميركي. يُجمع المغتربون الفلسطينيون، المشتّتون شرقاً وغرباً، على أن المستويات الرسمية لم تنصفهم يوم السابع من أكتوبر، وأنها فضّلت كتم أصواتهم لتجنّب عاصفةٍ بدأت في وجه الفلسطينيين وقد تنتهي عندهم.

خلال الأيام اللاحقة، بدأنا نختبر اللوعة والفقدان الجماعي المتسارع لعائلاتٍ بأكملها شاركتنا لحظات الغربة وسبقتنا إلى البلاد على أمل اللحاق بها ولو بعد حين. خلال الأسابيع الأولى، قُصف منزل عائلة الزعانين فقضت العائلة، أمٌّ وأبٌ وستة أبناء، لم يبق منهم سوى طفل واحد احتضنت نحيبه أجهزة العناية المركّزة في مشافي القطاع. خلال بحثنا عن حقيقة الخبر أرسلتُ إلى خلود الزعانين أطالبها بالطمأنينة لقلبي، حتى تأكد خبر ارتقائهم مشفوعاً بأن طواقم الإنقاذ تأكدت من فناء خلود بالعثور على بقايا يدها وفيها خاتم زواجها.

بضعة أيامٍ أخرى، ويُنعى لنا خبر ارتقاء عائلة الدهشان، أم وأب وخمسة أطفال، عادوا إلى غزة بعدما فتحت لهم الدنيا أذرعها، ورأوا في غزة ما لم يرَ العالم، وعلى مدى الأيام والأسابيع كانت أسماؤهم تمرّ على شاشاتنا كأنها نشرة وفاة جماعية، ونحن نحاول تصديق أن الغياب صار طقوس حياتنا اليومية، بينما أُثقلت أرواحنا ألماً على الراحلين. كنا نفقد قشة تلو الأخرى نتعلق بها على أمل وقف الحرب، من المساعي الدولية والعربية، إلى ورقة الأسرى، إلى معركة إسناد المقاومة اللبنانية، إلى انتفاضات الجامعات، والحراك الشعبي العربي والإسلامي والعالمي، وقضايا المحكمة الدولية والجنائية الدولية.

وحتى على الأرض، كنّا نظنّ أنّ كل خطوة عسكرية هي الخطوة الأخيرة، من التوغّل البرّي إلى احتلال محور صلاح الدين، ففصل الشمال عن الجنوب، وحتى اجتياح رفح الذي عُدنا منه لاجتياح غزة المدينة مرة أخرى، ثم تهجير الشمال، فتجريف الشمال، ثم المنطقة العازلة فالمنطقة الفاصلة، بينما كنا والعالم نبعثر بيانات الشجب والاستنكار والإدانة. وهكذا حتى مضت بنا الحرب من شهرها الأول إلى عامها الأول، ومن العام الأول إلى الثاني، ومن بايدن إلى ترامب، ومن وساطة مصر إلى وساطة تركيا…وهكذا.

بعد عامين من الحرب، بإمكاني القول بكل ثقة إن المستويات الرسمية لم تنصف الفلسطينيين، وإننا أدركنا وللمرة الأولى أن جعجعة الأنظمة الرسمية وعواءها المزيّف حوّل التضامن «الراسخ» مع قضيتنا، لم يكونا إلا سقفاً مرسوماً سلفاً، يحدد حجم التفاعل الشعبي والإسناد المادي والعمل الحقيقي لنصرة أهلنا في غزة، وأن هذا العواء استُخدم لقمعنا والترويج لسعينا في التفاعل مع قضيتنا باعتباره أجندة خارجية تُحرج النظام وتضعه في الزاوية أمام الاستقطاب الأميركي الصهيوني، وتعيق هرولته في المحافل الدولية، وهي الهرولة التي يقول النظام إنه لم يبادر لها إلا لأجلنا، بينما استخدمها لدعم شرعيته الداخلية وجذب الانتباه الخارجي له على مبدأ «خالف تعرف».

بينما تركت الأنظمة الشريكة في الإبادة، لشعوبها ومواطنيها والقاطنين على أراضيها، حُرية التظاهر تلو التظاهر والحشد والنفير لأجل فلسطين، وإشغال القوانين الوطنية والمحاكم الدولية بحقوق الفلسطينيين، وتحريك قوافل الصمود وكسر الحصار من موانئها، وغيره من أشكال التضامن الفعّال.

بطبيعة الحال، لا يُسبغ ذلك سلاسة وسهولة على ما جرى، بل إنّ غالبية التظاهرات كانت محفوفة بالصدام، لكنه على الأقل تُرك للجماهير حرّية الحركة والتفاعل واستخدام أدوات التضامن السلمي، في مقابل أنظمة أخرى حدّدت عدد المشاركين وخط سيرهم ونوعية هتافاتهم والشعارات المرفوعة في تظاهراتهم، ثم غسلت خزيها بخطابٍ تضامني كاذب ازداد علوّه كلما تفاقمت الأزمات الداخلية وتراجعت الشعبية الجماهيرية.

اليوم، وكل يوم، نعود لإدراكنا الأول مع طوفاننا الأول: أن البُعد ليس بالكيلومترات، بل بالخذلان، وأن الموت في الغربة ليس بنزف الدم، بل بنزف الحسرة، وأن حروب الفلسطينيين لن تُخاض إلا بدمائهم، بينما يبحث بقية العالم عن استثمارٍ سياسي أو اقتصادي خاصٍّ بهم، مرتبطٍ بألمهم، وأننا ما زلنا، في ظلال الطوفان، نُحصي المسافة بين الحنين والخذلان.

* كاتبة وباحثة فلسطينية مقيمة في ماليزيا

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة