إبراهيم مرعي
أثارت التصريحات الأخيرة للمديرة التنفيذية لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، كاترين راسل، بمناسبة السابع من أكتوبر، عاصفة من الاستياء والرفض في الأوساط الثقافية والفكرية، بعدما تبنّت بشكل كامل الرواية الإسرائيلية حول أحداث السابع من أكتوبر، متجاهلةً سياق عقود من الاحتلال والحصار والاحتلال والعنف الممنهج.
ففي بيانها، ركزت راسل حصرياً على إدانة «الهجمات المروّعة التي شنّتها حماس وجماعات مسلحة أخرى» في إسرائيل، متحدثةً عن أطفال «انتُزعوا من عائلاتهم، وقُتلوا، وشُوّهوا، واختُطفوا». هذا الخطاب يضع الـ«يونيسف» كمؤسسة يُفترض أنها محايدة في عين الإبادة الجماعية، وما صرحت به راسل يعد تبنّياً صريحاً لرواية ثبت كذب الكثير من أدلتها، حتى وفقاً لتقارير صادرة عن جهات إسرائيلية نفسها نفت حدوث عمليات قتل أو تشويه أو اختطاف للأطفال بالصورة التي روّجت لها.
بهذا الموقف، ارتكبت راسل خطأين فادحين: الأول هو تقويض مصداقيتها كموظفة أممية رفيعة المستوى خاطرت بسمعة الـ«يونيسف»، والثاني هو الخروج الصارخ على مبدأ الحيادية كمبدأ إنساني، عبر الانحياز الكامل إلى أحد أطراف النزاع، ما يعد إخفاقاً مهنياً وأخلاقياً يدفع الكثيرين إلى المطالبة بمساءلتها، بل وفصلها من منصبها.
يشير هذا الانحياز إلى مدى نفوذ اللوبي الصهيوني في أروقة المنظمات الدولية
الأمر الذي يزيد الموقف إشكاليةً هو أن المنظمة التي تقدم نفسها كحامية لحقوق الأطفال، اختزلت معاناة الأطفال في جانب واحد، متعمدةً تجاهل 77 عاماً من الاحتلال والإجرام اليومي وقتل الأطفال والتجويع والتهجير الذي يتعرض له الأطفال الفلسطينيون. كما إن هذا الموقف يأتي في وقت تؤكد فيه تقارير الـ«يونيسف» نفسها ومحكمة العدل الدولية أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يواجه اتهامات بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في غزة، حيث قُتل وشُوّه عشرات الآلاف من الأطفال.
وفي محاولةٍ لترميم الأضرار، أصدرت راسل في اليوم التالي بياناً ثانياً أشارت فيه إلى مقتل وتشويه ما يصل إلى 64 ألف طفل في غزة، بينهم 1000 رضيع على الأقل. لكنها، وبلغة تحوي الكثير من التعتيم، دعت إسرائيل إلى «ضمان الحماية»، من دون أن تسمي الجاني صراحة، وكأن هؤلاء الأطفال قضوا نحبهم بقضاء وقدر، وليسوا ضحايا لآلة حرب مجرمة مدعومة دولياً.
هذا الفصل الاصطناعي بين المعاناة الإنسانية، وذكر أفعال طرف دون آخر، خاصة في ظل إدانة عالمية شعبية واسعة للجرائم الإسرائيلية، يضع الـ«يونيسف» ومؤسستها الأممية الأم، والأسس الإنسانية التي تقوم عليها، في مهبّ الريح، مهددةً مصداقيتها كمنظمة معنية بالطفولة العالمية، وليس بأطفال طرف واحد فقط.
يطرح هذا الانحياز تساؤلاتٍ خطيرةً عن مدى نفوذ اللوبي الصهيوني المؤيد للكيان المجرم بحكم المحكمة الدولية في أروقة المنظمات الدولية، ومحاولة إخضاعها لخدمة سردية أحادية. ففي ظل إبادة القرن في غزة، لن يرحم التاريخ أولئك الذين خذلوا الإنسانية في غزة وانحازوا إلى الجلاد.
الأمم المتحدة اليوم أمام اختبار مصيري للحفاظ على ما تبقى من مصداقيتها. فهل ستتخذ إجراءات حازمة لمعاقبة راسل على انحيازها الصارخ وخرقها للحيادية؟ أم أن مقراتها في نيويورك وجنيف أصبحت خاضعة تماماً للوبي المؤيد لإسرائيل، ما يفقدها شرعيتها كمنبر للعدالة الدولية؟
هذا النوع من تزوير التاريخ، ومحاربة الهوية الفلسطينية، وتصدير السرديات الإسرائيلية عبر صوت أممي مزيف في ظل الإدانة الأوروبية الشعبية لجرائم إسرائيل، هو شكل من أشكال الإبادة الثقافية التي تكمل حتماً فظاعة آلات القتل، لأنها تسعى إلى محو الحقائق وطمس معالم العدالة من ذاكرة العالم.
* متخصص في الشؤون الفلسطينية