عمر نشابة
الفلسطينيون في قطاع غزة يحتفلون باتفاق وقف إطلاق النار ليس لأنه يحقق السلام العادل، بل لأنهم تمكنوا من البقاء على قيد الحياة رغم الإبادة الجماعية. ومن حقهم وحدهم أن يحتفلوا. من حق المرضى أن يحصلوا أخيراً على الدواء، ومن حق الأطفال أن يتناولوا أخيراً وجبة طعام كاملة، ومن حق الأهالي أن يكملوا البحث عن أحبائهم المفقودين تحت ركام المباني. من حق غزة أن تعيش، ولكنّ اتفاق وقف إطلاق النار وتطبيق خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لـ«السلام» في غزة لا يعفيان العدو الإسرائيلي وشركاءه الأميركيين والأوروبيين والعرب، والمحرضين على إبادة الفلسطينيين جماعياً، أو المتساهلين مع مرتكبيها، من المحاسبة.
صحيح أن آليات العدالة الدولية والمحلية عجزت عن التدخل بشكل فعال لوقف المجازر والتجويع وغيرها من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تمادى الجيش الإسرائيلي وأمعن في ارتكابها على مدى عامين في قطاع غزة، ولكن ذلك لا يعني أن القضية انتهت بوقف إطلاق النار وتم العفو عما مضى.
معظم دول العالم، بما في ذلك لبنان على لسان رئيسي الجمهورية والحكومة، رحبوا بخطة الرئيس ترامب، علماً أن هوسه بالحصول على جائزة نوبل للسلام دفعه إلى تهديد الفلسطينيين بالإبادة الشاملة في غزة إذا لم يوافقوا عليها. يا له من خيار: إما أن يُمنح ترامب جائزة نوبل للسلام أو الحرب والجحيم والإبادة. واللافت أن بدل التعبير عن الاضطرار إلى قبول الخطة بهدف وقف القتل والتعذيب والتهجير، تزاحم رؤساء الدول والمسؤولون في المؤسسات الدولية، وحتى بعض خبراء حقوق الإنسان والقانون الدولي، على الترحيب بحرارة بخطة مستر ترامب الاستعمارية.
رئيس الجمهورية اللبنانية استعجل القول إن ترامب استند في خطته إلى «مبادئ العدالة الإنسانية والكرامة البشرية». أمّا رئيس الحكومة، فقد نسي قسمه تحت قوس محكمة العدل الدولية عام 2018 وقال إن الخطة «تكرّس حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على أرضه» بينما لا توجد ضمانات لانسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة، ولا جدولَ زمنياً لتولي الفلسطينيين الحكم، وقد حسم ترامب مراراً وتكراراً أنه «يملك» غزة.
في المحصّلة، بالنسبة إلى لبنان، لا شك أن مَن لم يكن مقتنعاً بأن الرئيسين عون وسلام يفضّلان رضى واشنطن على معايير العدالة والإنصاف وعلى مصلحة لبنان ومبادئه الدستورية، بات متأكداً من ذلك بعد الاضطلاع على مواقفهما المستعجَلة من خطة ترامب.
المرحلة الأولى من هذه الخطة في غزة، التي تشمل إطلاق حركة حماس سراح جميع الأسرى الإسرائيليين، تبدأ اليوم ويُخشى ألا تسمح إسرائيل بالانتقال إلى المرحلة الثانية، بل تستعيض عنها بذبح مَن تبقّى من الفلسطينيين في القطاع بحجّة أنهم لم يسلّموا كامل أسلحتهم.
إنّ وقف إطلاق النار الذي يبدأ في غزة لن يوقف مسار المحكمة الجنائية الدولية التي كانت قد تلقّت آلاف الشكاوى
ففي لبنان مثلاً، يتواصل العدوان المجرم على القرى والبلدات في الجنوب بشكل يومي بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار و«وقف الأعمال العدائية» في العام الماضي بحجّة أنّ حزب الله لم يسلّم سلاحه، علماً أن تقرير قائد الجيش اللبناني العماد رودولف هيكل الأخير إلى مجلس الوزراء أكد أن حزب الله قام بكل التزاماته بشأن الاتفاق.
على أي حال، إن وقف إطلاق النار في غزة لا يقلب صفحة الإبادة الجماعية ولا يعفي عمّا مضى من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وتتابع محكمة العدل الدولية مسارها، ولو ببطء، في قضية شكوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل. وقد حُدّد موعد لرد محامي الدفاع عن الكيان الإسرائيلي في شهر كانون الثاني 2026 ويتوقّع أن يصدر الحكم في نهاية العام القادم. وقد انضمت عشرون دولة إلى جانب جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، وهي إسبانيا وتركيا وفينزويلا وكوبا وباكستان ونيكاراغوا والمكسيك وناميبيا وماليزيا والأردن وليبيا وإيرلندا ومصر وكولومبيا وشيلي والبرازيل وبوليفيا وبيليز وبيلجيكا وبانغلاديش. لكن لبنان لم ينضم. لماذا؟ ربما للأسباب نفسها التي دفعت الرئيسين للترحيب الحارّ بخطّة ترامب.
إنّ وقف إطلاق النار الذي يبدأ في غزة لن يوقف مسار المحكمة الجنائية الدولية التي كانت قد تلقّت آلاف الشكاوى ضد الكيان الإسرائيلي واضطر المدعي العام الدولي كريم خان إلى إصدار مذكرات توقيف ضد نتنياهو وغالانت بعد مصادقة دائرة القضاة الابتدائية في تشرين الثاني من العام الماضي. ولكن عدداً من الدول الأوروبية الملزمة قانونياً باعتقال نتنياهو لدى مروره بأراضيها وأجوائها رفضت القيام بذلك. أمّا الولايات المتحدة الأميركية، فقرّرت معاقبة القضاة والمدعي العام.
لكن رغم العقوبات، ورغم إجبار كريم خان على التنحّي، تتابع المحكمة مسار عملها، وبدل تراجعها تتضاعف الشكاوى القضائية ضد سياسيين وعسكريين ومسؤولين إسرائيليين لارتكابهم إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وباتت الشكاوى تشمل كذلك رؤساء ووزراء ومسؤولين في دول أخرى ساندت الكيان الإسرائيلي وزوّدته بالسلاح وبرّرت جرائمه في الأوساط والمحافل الدولية. وفي هذا الإطار، صرّحت رئيسة الحكومة الإيطالية اليمينية المؤيدة بشدة لإسرائيل، جورجيا ميلوني، يوم الثلاثاء الفائت، بأنه تم الإبلاغ عنها وعن اثنين من وزرائها أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة «التواطؤ في إبادة جماعية» في إطار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
في مقابلة مع قناة «راي» التلفزيونية الإيطالية الرسمية، قالت ميلوني إنّ الشكوى القضائية تشمل كذلك وزير الدفاع غيدو كروسيتو ووزير الخارجية أنطونيو تاجاني، وروبرتو سينغولاني، رئيس مجموعة ليوناردو الإيطالية للتصنيع العسكري التي زوّدت جيش العدو الإسرائيلي بالأسلحة والعتاد الحربي لارتكاب الإبادة الجماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وأخيراً وليس آخراً، لا بد من الإشارة إلى ملاحقة المجرمين الإسرائيليين في المحاكم المحلية في عدد من الدول الأوروبية حيث يقوم محامي مؤسسة هند رجب بجهود هائلة لتحديد الضباط والجنود والسياسيين الإسرائيليين الضالعين بجرائم الإبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وجمع الأدلة والقرائن والإثباتات وإيداعها دوائر الادعاء العام لإصدار مذكرات توقيف ثم محاكمتهم.
ويتوقّع أن يُدرك العالم خلال الأشهر القادمة أن لا بديل عن وجود نظام عالمي يحدد القواعد في العلاقات الدولية وأن الكيان الإسرائيلي لا يمكن أن يكون استثناء، علماً أن حالة الاستثناء هي أساس قيام إسرائيل.