في لحظةٍ تماهى فيها وجع الحصار بدموع الفرح والانتصار، خرجت غزة اليوم من بين الركام لتستقبل أبناءها الأسرى المحررين من سجون الاحتلال، في مشهدٍ غامرٍ بالرمزية، أعاد إلى الأذهان ملامح الحرية التي حلم بها الفلسطينيون طويلاً، وذكّر العالم بأن هذه المدينة لا تموت.
ومنذ ساعات الصباح الأولى، توافدت الحشود إلى الساحات العامة وأمام مقار الصليب الأحمر والمستشفيات المخصصة للاستقبال. كانت القلوب تخفق شوقًا، والأنظار تترقب اللحظة التي تتحول فيها سنوات القيد إلى قبلةٍ على جبين أمٍ انتظرت، ودمعة أبٍ لم ييأس من اللقاء.
وعلى امتداد الشوارع المدمرة، علت الزغاريد، وتعانقت التكبيرات مع أصوات الأغاني الوطنية، بينما ترفرف الأعلام الفلسطينية ورايات الفصائل المقاومة فوق الأنقاض.
مشهد الحرية
وما إن ظهرت سيارات الصليب الأحمر تقلّ الأسرى المفرج عنهم حتى دوّى الهتاف: “الحرية للأسرى.. المقاومة انتصرت”. الأطفال حملوا صور آبائهم وأشقائهم، والنساء وزّعن الحلوى في الشوارع، بينما تراقصت الوجوه بين الدموع والابتسامات.
تقول أم إبراهيم بريص، والدة أحد المحررين: “هذا اليوم ليس يوم ابني فقط، بل يوم كل فلسطين. المقاومة أوفت بوعدها، وها نحن نجني ثمار صبرنا. وعدت فأوفت، وستحرر الباقين بإذن الله”.
ولم يكن المشهد مجرد احتفالٍ بتحرير أسرى، بل إعلانًا رمزيًا لانتصار الإرادة الفلسطينية. فوسط الدمار الذي غطى الأحياء، خرج الناس بثيابٍ بسيطة ووجوهٍ متعبة، لكن مفعمة بالأمل. كل دمعةٍ كانت رسالة تحدٍ للعالم: غزة لا تُكسر، وإن سُحقت بالحرب، تولد من جديد.
غزة تحتفل رغم الألم
وجاءت صفقة التبادل الأخيرة تتويجًا لشهورٍ طويلة من الصبر والمفاوضات المعقدة، لتُضاف إلى سجلٍ طويل من إنجازات المقاومة التي أثبتت أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع.
يقول الكاتب الصحفي عبد الرحمن يونس لمراسلنا: “هذه ليست مجرد صفقة تبادل، بل صفعةٌ سياسية وأخلاقية للاحتلال الذي حاول كسر إرادة غزة بالنار والحديد، فإذا به يرضخ لشروطها”.
ولا يرى الناس في غزة في الصفقة مجرد عودة للأسرى، بل استعادةً لكرامةٍ وطنيةٍ جماعية. فكل أسيرٍ محرر هو شهادة على صبر عائلةٍ، وثبات مدينةٍ، وإصرار شعبٍ لم يتنازل رغم الحصار والجراح.
على جدران المنازل المهدّمة، كُتبت عبارات النصر: “وعد المقاومة صدق”، “الحرية للأسرى جميعًا”. بين الركام، علّقت الزينة، وتزينت الشوارع بألوان الوطن. احتشد الآلاف في مواقع مختلفة، بعضهم بانتظار استقبال الأسرى، وآخرون لمشاهدة تسليم جثامين الأسرى الإسرائيليين ضمن صفقة “طوفان الأقصى”.
يقول خالد أبو شاويش، شقيق أحد الأسرى المفرج عنهم: “غزة لا تموت، كل مرة نحترق، ثم نولد من جديد”.
فخر يتجاوز الحدود
وتجاوزت مشاهد الفرح حدود غزة، لتصل إلى المخيمات في الشتات والمدن العربية والعواصم الغربية. امتلأت مواقع التواصل بصور المحررين وعبارات الفخر، وعبّر الفلسطينيون والعرب وأحرار العالم عن تضامنهم مع هذا الانتصار الإنساني والسياسي.
وتحوّلت صفقة “طوفان الأقصى” إلى لحظة وعيٍ جماعي، لا تحتفي فقط بخروج الأسرى، بل تؤكد أن خيار المقاومة هو الطريق الأوضح نحو الكرامة والتحرر.
اليوم، تقول غزة للعالم مجددًا: “نُقصف فننهض، نُحاصر فنبدع، نُقاتل فننتصر. من رماد الحرب ودماء الشهداء ودموع الأمهات، تولد حكايتنا من جديد، حكاية وطنٍ لا يساوم على حريته، ولا ينسى أبناءه خلف القضبان”.
وتحرر 1968 أسيرا فلسطينيا من سجني “عوفر” باتجاه رام الله و”كتسيعوت” باتجاه قطاع غزة بموجب صفقة تبادل طوفان الأقصى، وفي المقابل أفرجت كتائب القسام عن 20 أسيرا على قيد الحياة على دفعتين الأولى في مدينة غزة والأخرى جنوبي القطاع، وسلمتهم إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر في مدينة غزة التي قامت بتسليمهم للاحتلال.
ومن بين الأسرى المحررين 250 أسيرا من أصحاب المؤبدات و1718 أسيرا من قطاع غزة، الذين اعتقلوا بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
ودخلت المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال حيز التنفيذ ظهر الجمعة بعد أن أقرت حكومة الاحتلال الاتفاق فجرا. ويستند الاتفاق إلى خطة طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب تقوم على وقف الحرب، وانسحاب متدرج لجيش الاحتلال، وإطلاق متبادل للأسرى، ودخول فوري للمساعدات إلى القطاع.