علي حريري
الإعلام ساحة معركة لا تنام. إذا كانت الجبهات السياسية والعسكرية قد تهدأ من حين إلى آخر فجبهة الحرب الإعلامية تبقى في حالة استنفار دائم. هذا هو حال الإعلام في كل مكان حول العالم، لكنّ الدعاية ضد مجتمع المقاومة في لبنان لها طابعها الاستثنائي، حيث يستنفر مشغّلو الدعاية المعادية كل طاقاتهم وأساليبهم التقليدية منها والحديثة في سياق حرب نفسية بلا سقف وبلا ضوابط أخلاقية، مستغلّين غياب سلطة القانون والقضاء، مدفوعين بقدرات مالية هائلة متعدّدة الجنسيات والمشارب والمواهب. كل ذلك لأجل هدف وحيد، هو عزل المقاومة عن حمايتها الشعبية، وعن جمهورها الذي بقي على امتداد الجولات قلبها وروحها ويدها، بل جوهر وجودها الإنساني والأخلاقي والحضاري.
كيف تفكّر؟
على مدى سنوات طويلة، اتّخذت الحرب الإعلامية ضد مجتمع المقاومة شكل الدعاية السياسية التقليدية، التي تسعى إلى تحقيق هدفها عبر محاولة التلاعب بالعقول، والتأثير على أفكار جمهور المقاومة ومعتقداته وتصوّراته. التلاعب بالعقول هنا يعني هندسة العقل الجمعي والجماهيري ليصل إلى مرحلة يفكر فيها وفق غايات الجهات المعادية، دع الجمهور يختار بإرادته «الواعية» الخيارات التي يريدها العدو. الدعاية هنا ظاهرها إقناع وباطنها تلاعب بالعقول واحتلال ناعم، وبذلك سيطرة وتحكّم عن بعد.
عُرف هذا الأسلوب في الأوساط الأكاديمية الإعلامية بصناعة الموافقة (manufacturing consent) وهو مفهوم صاغه لأول مرة الصحافي الأميركي والتر ليبمان في كتابه «الرأي العام» (1922)، فعرّفه بأنه تكثيف للدعاية الموجّهة إلى الجماهير بغرض تشكيل وعيها بما يخدم مصالح النخبة الحاكمة. لاحقاً توسّع الكاتبان نعوم تشومسكي وإدوارد هيرمان بهذا المفهوم في كتابهما «صناعة الموافقة: الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام الجماهيرية» (1988)، منتقدين بأسلوب حادّ صناعة الموافقة باعتبارها أداة لخداع وتضليل الشعوب وليس لخدمتها.
لكنّ المناعة الفكرية التي أثبتها مجتمع المقاومة في كل المحطات أوصلت إمبراطوريات الإعلام المعادي إلى حائط مسدود. حتى في أكثر الحالات التي يمكن أن ينجح فيها الإعلام باصطياد موقف مسيء بحق المقاومة، أي في ذروة النزوح والتهجير خلال الحرب الإسرائيلية المدمّرة، لم يرصد غير المزيد من الالتفاف حول المقاومة، كفكرة وقيمة وجدوى وفرصة مهما تبدّلت الظروف ومهما بلغت الأثمان. هذا الواقع الذي تكرّس بتكرار التجارب الفاشلة للإعلام المعادي – الأصيل منه والمأجور – دفعه إلى الانتقال إلى مستوى جديد من الحرب الإعلامية.
إذا كان باب التلاعب بالعقول مقفلاً بالوعي والبصيرة – نعم بالبصيرة – فلماذا لا يتم الالتفاف على العقول من باب التلاعب بالأعصاب؟ معركة الأعصاب أسهل، تحتاج إلى عدّة شغل من نوع آخر، لا حجج ولا براهين ولا أدلة إقناعية ولا خطاب ثقافي مختلف ولا بدائل متينة تبدو ظاهرياً عقلانية ومنطقية… في استنزاف الأعصاب تحتاج فقط إلى نخبة قليلة ماكرة تفكّر وتخطّط وإلى جوقة من «المطبلين»، فكيف إذا كان لديك فائض منهم؟
كيف تشعر؟
في التلاعب بالعقول يسعى المتلاعبون إلى صياغة الإجابة على سؤال «كيف تفكر؟»، أمّا في التلاعب بالأعصاب فيحاول المتلاعبون صياغة الإجابة على سؤال «كيف تشعر؟»، فيشتغلون هنا على إثارة مشاعر الغضب والتوتر والخوف والقلق لدى الجمهور الذي يصبح أكثر هشاشة أمام الهجمات الإعلامية المركّزة، وتقلّ مناعته أمام سيل الضغوطات السياسية والأمنية والعسكرية. كلما ارتفع منسوب الانفعال تراجع منسوب التفكير العقلاني والواعي.
هذا ما يفسّر تركيز الإعلام المأجور في لبنان على عناوين لا تحمل أي فكرة سياسية قابلة للنقاش، وبدلاً من ذلك يثير عناوين مستفزّة لمشاعر الغضب لدى جمهور المقاومة. هنا نفهم لماذا – على سبيل المثال – يطرح أحد الأبواق معادلة خيالية مثل «زيارة ضريح السيد مقابل تسليم السلاح»، ونفهم لماذا تعرض إحدى الوسائل الإعلامية تقريراً قائماً على الأكاذيب المفضوحة لتوحي أن بناء مرقد للسيد نصرالله أمر مخالف للقانون ويشوّه هوية مدينة بيروت ويشكّل خطراً أمنياً على المواطنين المتّجهين من وإلى مطار بيروت، في استفزاز مقصود لكل من ينتمي إلى مجتمع المقاومة، ولكل محبّ للسيد نصرالله. استفزاز نفسي وعصبي مدروس بعناية، يأتي في سياق استكمال ناعم للحرب على لبنان من أجل تحقيق الأهداف التي لم يستطع العدو الإسرائيلي تحقيقها بالقوة. فماذا يمكن أن يحقّق المتلاعبون بالأعصاب؟
أولاً، بعد حرب إسرائيلية صعبة وقاسية، استطاع مجتمع المقاومة الصمود رغم حجم الخسائر التي تعرّض لها، هذا الصمود البطولي، إنجاز يُحسب لهذا المجتمع وهو ثمرة زرعٍ زرعه السيد نصرالله على مدى ثلاثة عقود في نفوس جماهيره الوفيّة فأنبتت مجتمعاً صلباً ثابتاً لا تهزّه ضراوة الحروب ولا حجم التضحيات، بل يحوّلها إلى ذخيرة معنوية وإلى تجربة ودرس حي تحضيراً للجولات القادمة. ترك المساحة أمام الرأي العام لفهم هذه الحقيقة التاريخية يضاعف حجم هذا الإنجاز ويراكم الوعي لدى المجتمع بأهمية ما حقّقه خلال هذه الحرب وبعدها.
في حين أن الاستنزاف العصبي للجمهور يشتّت تركيزه ويحرفه عن إدراك هذه الحقيقة، بل يشغله بقضايا هامشية غير ذات قيمة، بدل التفكير في ما حقّقناه، ننفعل ونشتغل بالقيل والقال والرّد والرّد المضاد، بالفعل وردّ الفعل، فيخسر المجتمع المقاوم المبادرة المدروسة، ويضيع الجوهر الثمين في كومة الجدل الرخيص الذي فرضته ماكينات الإعلام المأجور.
ثانياً، تؤدّي مشاعر الخوف والقلق التي يثيرها التلاعب الإعلامي بالأعصاب، إلى دفع الجمهور نحو التفكير أكثر بالثمن بدل الهدف، ثمن الحرب، ثمن المواجهة، ثمن الصمود، فتأخذه بشكل غير واع نحو تقبّل التنازلات السياسية أملاً بالشعور بالاطمئنان والاستقرار النفسي والعصبي. يتوقّع المتلاعبون أن تضخيم مشاعر الخوف والقلق لدى الجمهور سينعكس تردّداً وحذراً زائداً في عملية اتخاذ القرار لدى قيادة المقاومة تجاه الاستحقاقات التي تواجهها اليوم وغداً على كلّ الصّعد السياسية والأمنية والعسكرية.
ينطلق أصحاب هذا التوجه الإعلامي من مفهوم عقيدة الصدمة الذي صاغته وكتبت عنه الكاتبة ناعومي كلاين في كتابها «عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث» (2007)، حيث تستغل السلطة الحاكمة الكوارث والأزمات مثل الكوارث الطبيعية أو الحروب أو الأزمات المالية الكبرى لدفع الجمهور نحو تقبّل سياسات اقتصادية متطرّفة لم يكن تطبيقها متاحاً في الظروف العادية.
مع فارق جوهري هنا هو أن السياسات التي يُراد تحقيقها في لبنان بعد الحرب الإسرائيلية ليست سياسات اقتصادية بحتة، بل تمسّ السيادة الوطنية والسياسات الخارجية والدفاعية للبلاد، وتفتح الباب على مصراعيه أمام اللاعبين الإقليميين والدوليين الطامحين لتأدية دور أكبر على الساحة اللبنانية، وفق أجندة سياسية تخدم المصالح الأميركية والإسرائيلية في لبنان والمنطقة.
ثالثاً، يسعى المتلاعبون بأعصاب الجماهير إلى اختلاق وبث الأخبار التي تزيد من حالة انعدام اليقين لدى جمهور المقاومة، فتغرقهم في معلومات مفبركة عن تضعضع الجسم التنظيمي للمقاومة، وعن وجود عملاء للعدو يعملون في مستويات تنظيمية رفيعة، وعن حالات انشقاق واستياء وبلبلة داخل صفوفها، بما يخلق حالة من اليأس وفقدان الثقة بالنفس وانعدام الإرادة للنهوض والبناء من جديد.
ثم يأتي دور خبراء الكذب والهوبرة الإعلامية ليحسموا أن المقاومة انتهت وأن جمهورها انفضّ عنها وأن تسليم السلاح صار مسألة وقت فقط، متنازلين عن مهنيّتهم وسمعتهم وصورتهم – بما أن بعضهم يحمل لقب دكتور وأستاذ جامعي ومدير مركز دراسات – لأجل تنفيذ المهمّة المطلوبة منهم، وهي إحباط جمهور المقاومة وتثبيطه وتيئيسه وتخلّيه عن خوض عملية النهوض والإعمار والترميم العسكري والمدني.
كيف تتصرّف؟
يكمن السرّ في فهم الخدعة. من المعروف أن الساحر أو من يمتهن ألعاب الخفّة يحاول قدر الإمكان إخفاء سر خدعته السحرية عن الجمهور المنبهر، لأنه في اللحظة التي يكتشف فيها الجمهور السر تفقد الخدعة بريقها وتأثيرها في النفوس، ويتحوّل العرض إلى حركات متوقّعة مكشوفة مملّة وغبيّة أحياناً.
ينطبق ذلك على الإعلام أيضاً. في الفضاء الإعلامي الملوّث، من الخطأ أن تكتفي بمشاهدة العرض فقط، يجب عليك أن تكون ناقداً، وأن تبحث عن السر والمقصد في التصريح وفي التقرير والمقال والتغريدة… اطرح الأسئلة واكتشف الإجابة، عندها فقط يتحول كل هذا الضجيج الإعلامي إلى حركات متوقّعة مكشوفة مملّة وغبيّة أيضاً، فيفقد قيمته وقدرته على التأثير والاستفزاز والتلاعب سواء بالعقول أو بالأعصاب، ثم يتحوّل تدريجياً بفعل الانكشاف أمام الرأي العام إلى جهد إعلامي مهدور، ويمكن حينها أن يحقق نتائج عكسية.
هذه مهمة ليست سهلة. إنّ تأجيل الانفعال إلى ما بعد عملية النقد والتفنيد والاستفهام، وتحويله إلى طاقة إيجابية عكسية، يحتاجان إلى قدرات ومهارات متقدّمة لكنها ممكنة ومتاحة، وهي على الرغم من صعوبتها تظل أسهل بما لا يقاس من أن تكون ضحية في حرب أعصاب يخوضها مرتزقة بصفة إعلاميين وناشطين ومحلّلين وخبراء.
لا يُتوقع من الإعلام الخاضع لرأس المال العربي وللسطوة الأميركية أن يكون صادقاً ونزيهاً، ولكن يُنتظر من أفراد المجتمع المقاوم اكتساب المناعة والحصانة ضد ألاعيب الإعلام المرتزق بفعل الحس النقدي والوعي والتجربة، وهذا ما يتحقق تدريجياً على أرض الواقع. هذه مسؤولية الفرد في مواجهة الارتزاق الإعلامي، وهي بطبيعة الحال لا تعفي إعلام المقاومة من مسؤولية المبادرة والمواجهة، بل تتفاعل معها وتتكامل.
* باحث في علوم الإعلام والاتصال