لم تعد غزة وحدها في الميدان. هذه المرة، اصطفّ خلفها شارع أوروبي بكامل هيئته: جامعات، نقابات، برلمانات، وميادين تغص بلافتات “الحرية لفلسطين”.
في مشهد لم يتكرر منذ عقود، تُخرِج أوروبا صوتها من تحت ركام المصالح الباردة، وتمنحه للقضية الفلسطينية التي ظلت لعقود خارج دفاتر الأولويات السياسية الغربية.
السؤال الأبرز الآن: هل يملك الفلسطينيون الأدوات اللازمة لتحويل هذا الزخم الإنساني والسياسي إلى رافعة استراتيجية لقضيتهم؟ أم ستُهدر هذه اللحظة كما أُهدرت غيرها، في انتظار من لا يجيء؟
ما الذي تغيّر؟
في السابق، كان التضامن مع فلسطين يُقاس بعدد الشعارات على الجدران أو بضعة احتجاجات موسمية.
أما اليوم، فالمعادلة تبدّلت: عشرات الجامعات الأوروبية تُعلّق تعاونها الأكاديمي مع إسرائيل، نقابات عمالية تطالب حكوماتها بوقف بيع الأسلحة، وكتل برلمانية تضغط من الداخل لتغيير مسار الدعم الأعمى لتل أبيب.
هذه ليست مجرد تعاطف عاطفي. إنها بداية لتحوّل حقيقي في بنية الرأي العام الأوروبي، وتحولات في الخطاب السياسي الرسمي نفسه. أوروبا تتغيّر، والقضية الفلسطينية تُستعاد من جديد في مركز النقاش العالمي.
فراغ رسمي.. واحتياج شعبي
غير أن المفارقة المؤلمة هي أن هذا الحراك لا يجد من يخاطبه فلسطينيًا، السلطة الفلسطينية الرسمية تكتفي بالبيانات المتكررة، والعجز الدبلوماسي المعتاد. بينما لا يزال الصوت الحقيقي للشعب – صوت من عايش المجازر والحصار والمقاومة – غائبًا عن المنصات المؤثرة.
هنا تظهر الحاجة إلى ما يسميه الخبراء “الدبلوماسية الشعبية”، أي أن يتقدّم إلى الواجهة أولئك الذين يُجسّدون الوجع الفلسطيني، وليس من يتاجر به. أسرى محررون، أطباء ميدانيون، ناشطون دوليون، شخصيات تتمتع بالثقة والمصداقية.
نموذج جنوب أفريقيا.. والدرس الفلسطيني
تجربة جنوب أفريقيا مع النضال ضد نظام الفصل العنصري كانت تقوم على سردية موحّدة، ووفود شعبية جابت العالم، وأسّست تحالفات مع الشعوب قبل الحكومات. فما الذي يمنع تكرار هذا النموذج فلسطينيًا؟ خاصة أن الرواية الإسرائيلية بدأت تتراجع في الإعلام الغربي، لمصلحة مشاهد الشهداء والمجازر التي لم تعد قابلة للطمس.
المحلل السياسي علي أبو رزق يرى أن ما تحتاجه اللحظة هو “وفد شعبي” يخرج من غزة والضفة والشتات، ويكون انعكاسًا حقيقيًا للتجربة الفلسطينية، قادرًا على كسر الحصار الإعلامي والدبلوماسي، وإعادة صياغة الرواية الفلسطينية بلغات العالم.
الشتات الفلسطيني.. ورأس الجسر القادم
أوروبا مليئة بالفلسطينيين والعرب، لاجئين، طلبة، نشطاء، ومؤسسات تعمل في الظل. آن الأوان لتشكيل تحالف استراتيجي بين الداخل والشتات، يهدف إلى تدويل القضية، لا عبر البكاء في أروقة الأمم المتحدة، بل بصناعة حراك شعبي مستمر، يضغط ويقترح ويُربك.
ماجد الزير، رئيس المجلس الأوروبي الفلسطيني، يلخّص المشهد بجملة حاسمة: “الفرصة ليست على الهامش.. إنها في القلب. وهي تنتظر قرارًا فلسطينيًا شجاعًا فقط”.
لحظة نادرة.. ومسؤولية تاريخية
ما يحدث في أوروبا ليس موسمًا عابرًا من التضامن، بل بداية انعطافة يمكن أن تعيد صياغة موازين الرأي العام الدولي، لكنّ التاريخ لا ينتظر المترددين.
اليوم، المطلوب ليس فقط وحدة سياسية فلسطينية، بل صوت موحَّد وموثوق، يُعبّر عن تطلعات شعب محاصر بالمجازر، لا بالقرارات الفصائلية.