آخر الأخبار

حين يصبح خيار الموت في مدينة غزة أسهل من النزوح منها

1-5

لم يعد قرار النزوح من مدينة غزة نحو مناطق جنوب ووسط قطاع غزة قراراً مرتبطا فقط بالواقع الميداني المحيط بالعائلات واستحالة البقاء في المدينة بسبب وحشية القصف والعدوان، وعدم وجود مكان تستطيع الأسرة لم شملها فيها بعد زحف التدمير الإسرائيلي لأحياء واسعة من جنوب وشرق وشمال وغرب المدينة.

وبعيدا عن الأبعاد الوطنية الدافعة لرفض النزوح من المدينة، فإن العائلات تواجه معضلات كبيرة تعيق عملية نزوحها حتى لو اضطرت للبقاء تحت حمم النيران، أبرزها عدم قدرتها المادية على نقل مستلزمات نزوحها البسيطة نحو الجنوب، وعدم امتلاكها خيمة تقيهم حر الشمس وبرد الشتاء، وعدم القدرة على شراء واحدة منها لغلاء ثمنها، وارتفاع أسعار ملحقاتها.

فبعد عامين تقريبا من حرب الإبادة المستمرة باتت العائلات الفلسطينية في قطاع غزة تعاني واقعا اقتصاديا صعبا لا تستطيع معه توفير وجبة طعام واحدة يومياً، فكيف يمكنها أن تتصرف وتتدبر مبالغ طائلة تكلفها عملية النزوح.

جيوب فارغة وتكاليف خيالية

العجيب أن هذا الأمر ليس خافيا حتى على الاحتلال الذي لا يكثرت إلا لتنفيذ مخططاته بالقتل والتدمير ومواصلة جريمة الإبادة ضد المدنيين العزل المنهكين المتعبين الذين ذاقوا الويلات على مدار العامين الماضيين.

فقد نشرت القناة 12 العبرية، أن المبلغ الإجمالي لتكاليف عملية النزوح للعائلة الواحدة من مدينة غزة نحو جنوب القطاع تكلف ما مجموعه 20 ألف شيكل ما يعاجل (6200 دولار أمريكي).

وبينت القناة العبرية، أن تكاليف نقل المستلزمات تتراوح ما بين 1500 إلى 2200 دولار، في حين تحتاج العائلة لاستئجار قطعة أرض لوضع خيمتها بقيمة تقدر بـ500 دولار، وبناء مرحاض بتكلفة 500 دولار أيضاً، وهناك مستلزمات أخرى كبرميل مياه وغيره وهي بحاجة لمبالغ إضافية.

لقد أصبحت عملية النزوح رحلة أشبه برحلات الفانتازيا العجيبة، تخرج من بيتك ومسكنك وحارتك، وتقذف بأحلامك وطموحاتك وذكرياتك خارج الحسابات، والاستقرار على قارعة الطريق، وفوق ذلك مطلوب منك أن تدفع لفعل ذلك مبالغ طائلة لا تمتلكها، وإن لم تفعل فأنت معرض للموت والقتل والتنكيل بحمم لا تعرف الرحمة.

النزوح ليس خيارا

تمددت النيران وهي تلاحق عائلة المواطن “خليل.ق” وهو من سكان حي الشجاعية، فقد اضطرت العائلة مع عودة الحرب في مارس المنصرم إلى النزوح من الحي نحو منطقة النفق، القريبة من بركة الشيخ رضوان.

عاشت العائلة في بيت لأحد أقاربهم هناك حتى بدأت العملية العسكرية الحالية التي أحالت تلك المنطقة إلى جحيم بفعل تفجير عشرات العربات المفخخة والقصف الجوي والمدفعي المكثف، لتنزح مجددا إلى منطقة حي النصر، وتعيش أياماً معدودة في شقة تعرضت لقصف سابق.

ومع بدء الاحتلال في استهداف العمارات والأبراج السكنية تعرضت العمارة التي يسكنونها لقصف ما دفعهم للنزوح نحو مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، والعيش في خيمة متهالكة لا تقي من شيء ولا تستر عورة، لكنها لم تسلم من بطش الاحتلال فقد دفنت الخيمة بعد قصف عمارة سكنية مجاورة دمرتها طائرات الاحتلال في إطار الخملة الجوية التي تستهدف المخيم منذ عدة أيام.

قابل مراسل “المركز الفلسطيني للإعلام” المواطن خليل في منطقة غرب مخيم النصيرات، هائما على وجهه يبحث عن مكان يمكن لعائلته النزوح إليه، وما أن تعرفت عليه وعرفت جزء من قصته حتى انهار باكيا، في مشهد إنساني لا يمكن وصفه، وكان يتكلم بكلمات مخنوقة لم أفهم منها سوى حديته “وين نروح.. احنا تعبنا.. مفيش مكان نحط حتى خيمة”.

هدأ خليل قليلاً وقال بلغة عامية بسيطة: “أنا أبحث عن مكان أضع فيه خيمة لعائلتي وأنا لا أمتلك خيمة أصلاً، أنا وصلت النصيرات على قدمي وتركت عائلتي في منطقة ميناء غزة، على الأرض بدون أي شيء يسترهم، ومش عارف لو لقيت مكان من وين بدي أجيب خيمة وكيف بدي أنقل عائلتي”.

ويضيف بصوت ممزوج بالقهر: “بتكلفة النزوح كان الواحد منا قبل الحرب يمكنه تعمير طابق كامل جديد في منزله، اليوم عشان نعيش في الشارع ونتبهدل ونذل مطلوب منا ندفع كل هذه الأموال التي لا نملكها”.

ويؤكد “خليل” أن عائلته ترفض فكرة النزوح، ولم تخرج من مدينة غزة من قبل خلال الحرب، لكنه يستدرك بالقول: “النزوح اليوم مش قرار أنت بتاخده وبتقدر تنفذه، اليوم أن تهرب من النيران التي تلاحقك في كل شبر من مدينة غزة، صحيح أنك تهرب من الموت في غزة إلى موت آخر في الوسط والجنوب، لكن هذا هو الواقع”.

وفق المكتب الإعلامي الحكومي؛ فإن الاحتلال فرض النزوح القسري على 270 ألف فلسطيني من مدينة غزة نحو الجنوب تحت تهديد القصف والإبادة فيما لا يزال أكثر من 900 ألف صامدون فيها يرفضون مغادرتها، رغم وحشية القصف والإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال “الإسرائيلي” في إطار تنفيذ جريمة “التهجير القسري” الدائم المنافية لكافة القوانين والمواثيق الدولية.

اكتظاظ وعجز

عدد كبير من أصحاب الأراضي في منطقة غرب مخيم النصيرات، فتحوا أراضيهم للنازحين مجاناً، والتي سرعان ما أصبحت مكتظة بخيام النازحين، يواجهون المأساة بعجز، وفق ما يروي “أبو مصعب.غ”، والذي فتح أرضه المزروعة بأشجار الزيتون والحمضيات للنازحين.

“رغم أن الأرض المساحات الفارغة فيها قليلة، لكنني آثرت أن أسمح للنازحين بنصب خيامهم داخلها، لكن هذا الأمر حملني عبئا كبيرا، فبعد امتلاء الأرض بالكامل أصبحت محرجا وعاجزا، فعدد كبير من العائلات يصلون عندنا يحملون أمتعتهم وأطفالهم ونساءهم، ويبحثون عن مكان مهما كان صغيرا ليصبح مسكنهم، ولا نستطيع توفير ذلك لهم.. صدقا لم أشعر بمثل هذا العجز من قبل”، يقول “أبو مصعب”.

الناس في وسط وجنوب قطاع غزة، يبيتون لياليهم ويقضون نهارهم في الشارع ويخرج رجالهم للبحث عن أماكن تؤويهم، ويروي شهود عيان كثر لمراسل “المركز الفلسطيني للإعلام”، أن عائلات وبعد عجزها عن توفير مكان لنصب خيامها، عادت أدراجها إلى مدينة غزة، مفضلة الموت داخل المدينة على البقاء في الشوارع دون مكان يحتضن يؤويها.

النزوح في غزة تجاوز حدوده المعروفة، ففوق أنه أصعب من خروج الروح من الجسد في حالته الاعتيادية، فقد أصبح له أبعاداً أخرى مع تواصل حبر الإبادة لعامين، أحالته إلى أمر يستحيل على العائلات احتماله، وجعلت خيار البقاء في المدينة المحاطة بحمم النار من فوقها وأسفل منها خيارا يمكن تفضيله على غيره من الخيارات.

 

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة