آخر الأخبار

مراجعة نقديّة لتجربة حزب الله السياسيّة والعسكريّة [18]

212-r8uptr3caelyt8yion9keysxyto4yu9q3my084i8hc

أسعد أبو خليل

حرب الإسناد: ماذا لو أنّ الحزب تمنّع؟

تكثُر التحليلات ذات النظرة الخلفيّة عن خيارات الحزب. هل أنّه كان سيُثكل لو أنّه امتنعَ عن إطلاق النار وماذا كانت إسرائيل ستفعل؟ مِن المؤكّد أنّ إسرائيل كانت ستنقضُّ على الحزب حتى لو هو تمنَّعَ عن المشاركة (التي بدَت محدودة مِن وجهة نظر الحزب الذي كان يريد أن تكون مشاركته محدودة، ولكنّ هذه الفرضيّة كانت من الفرضيّات أو الحسابات الخاطئة له) في حرب المساندة لغزّة. المراجع الغربية والإسرائيليّة أكّدت أنّ إسرائيل كانت مُزمِعة على استهداف لبنان من دون أيّ طلقة رصاص من الحزب. ونتنياهو كان سيطلق النيران قبل بدء حرب الإسناد لكنّ إدارة بايدن طلبت التأجيل.

هل كان الحزب سيكون أفضل حالاً لو هو امتنع عن شنّ حرب الإسناد؟ هنا تدخل الأخلاقيّات في التقييم كما تدخل عناصر العقلانية، بمفهوم العلاقات الدولية، أي السعي إلى تحقيق المصالح الذاتيّة للطرف. لو أنّ الحزب امتنع عن البدء بإطلاق النيران كان سيكون ضحيّة عدوان إسرائيلي، تماماً كما أنّ عبد الناصر توهّمَ في حزيران 1967 أنّ عدم المبادرة إلى إطلاق النار سيؤدّي إلى لَوم إسرائيل مِن قِبل الغرب، وبخاصّة أميركا، وأنّ جيشه من القوّة والمناعة إلى درجة تسمح له بامتصاص الضربة الأولى (أكّد له عبد الحكيم عامر ذلك في مشهد بات معروفاً، مشيراً إلى رقبته). الحزب ليس جيشاً، وأيّ مباغتة ضدّه مِن قِبل العدوّ تصيبه بأذى وضرر كبيرَين وتعرّضه لمخاطر الانكسار.

لكنّنا اليوم نعلم أكثر عن سيناريوهات افتراضيّة لتلك الحرب لهذه الأسباب:
1) كان الحزب في موقع الضعف عبر اختراقه إلكترونيّاً وبشريّاً بصورة كبيرة، وهذا الاختراق كان يمكن أن يعطي العدوّ أفضليّة أكبر لو أنّه هو فتح الحرب، وعندما كان يمكن له تفجير الـ«بيجر» في ميدان المعركة أو قرب الميدان، ما كان سيصيب المقاومة العسكريّة بالشلل، ولو لحين.

2) إسرائيل كانت قد أعدّت جيّداً لحرب الثأر من هزيمتها في حرب تمّوز 2006. لا يبدو مما جرى أنّ الحزب كان متحضّراً لتلك الحرب بالدرجة نفسها لتحضّره الفائق في حرب تمّوز. لكنّ الحزب في الحرب الأخيرة كان يخوض حرباً ضدّ إسرائيل وضدّ حلفائها في الغرب. الكلّ في الغرب شارك في الحرب في غزّة وفي لبنان.

3) لو أنّ الحزب ترك فرصة المباغتة لإسرائيل كان يمكن لها أن تقضي على قيادات الحزب في اللّحظة الأولى، وهذا ما حاولت أن تفعله في إيران وما حاولت أن تفعله في غزّة.

4) الفريق الإسرائيلي في لبنان (وهو الفريق السعودي-الإماراتي نفسه) كان مستعدّاً للَوم الحزب: للَومه لو هو بدأ الحرب محمّلاً إيّاه المسؤوليّة عمّا سيحصل مِن قتْل أو دمار، وكان سيلومه لو هو وقف مكتوف اليدَين، وكان سيتّهمه بالتخاذل وكانت عدّة الفتنة الطائفيّة ستفعَّل لاتّهام الشيعة ببَيع فلسطين. والذي يراجع الفترة الأولى من حرب الإسناد يتذكّر أنّ الفريق الإسرائيلي-اللّبناني عينه كان يسخر من الضربات المركّزة للحزب والتي أراد منها تدمير أبراج مراقبة ورصْد إسرائيليّة قرب الحدود. يومها اتّهموا الحزب بأنّه متّفق مع إسرائيل تحت الطاولة وأنّه -وفْق اتّفاق الحدود البحريّة (الذي وصفوه على أنّه اتّفاق شامل يغطّي كلّ جوانب الحياة في لبنان)- سيمتنع عن إلحاق الأذى بإسرائيل.

ماذا لو أنّ الحزب فتح الحرب الشاملة فوراً بعد «الطوفان»؟ هنا تحتدم التكهّنات وتتعاظم النظريّات. هل أنّ الحزب كان يجب أن يفتح الحرب الكبرى، مع حلفائه في اليمن وإيران والعراق (أثبتت الفصائل في العراق أنّها الأضعف في تشكيل المحوَر وبخاصّة أنّها مخترَقة مِن قِبل شيعة الاحتلال الأميركي الذين لا يزالون يتْبعون بدرجة أو بأخرى للاحتلال الأميركي وقوّاته الباقية رغم أنف العراقيّين- رئيس الحكومة العراقي الحالي أعلن بلغتَين قبل أيام عن إطلاق رهينة «روسيّة»، أي الرهينة التي طالب بها نتنياهو وترامب لِما يكنّون من حبّ وودّ للشعب الروسي).

إيران لم تكن تريد الحرب وهي كانت في وضع داخلي صعب أثبت فيه الجناح الإصلاحي شعبيّته في آخر انتخابات رئاسيّة. الوضع الاقتصادي نتيجة العقوبات يستطيع أن يغيِّر خيارات الشعوب، إلّا في اليمن حيث يصمد الشعب اليمني ويقاوم رغم الحرب العالميّة التي تنهال عليه بسبب وفائه للشعب الفلسطيني.

فتْح المعركة الكبرى مِن قِبل الحزب كان سيفيد إسرائيل لأنّها كانت تعلم بما لم يكن الحزب يعلمه: كان الحزب مخترَقاً حتى العظم، إلكترونيّاً وبشريّاً

ومن إيجابيّات دخول الحزب للحرب الكبرى بالنسبة إليه (بالنسبة إلى منظور مصلحة الحزب وليس بالمُطلق وليس من منظور المفاضلة الشخصيّة):

1) أنّه كان سيخوض الحرب بالاشتراك مع حلفاء له، ما كان سيفتح عدداً من الجبهات في وقت واحد ويشتّت قوّات العدوّ المتركّزة في غزّة بكثافة.

2) كان يمكن له أن يستفيد من التصعيد المفاجئ لكسب أفضليّة ميدانيّة. المباغتة لم تكن خارج حسبان العدوّ لكنّ عقلانية نصرالله وحساباته الدقيقة كانت سترجّح عدم فتح الحرب الكبرى في تلك اللّحظة. ونصرالله كرَّرَ ذلك حتى بعد حرب الإسناد، عندما أعلن أنّ الحرب ستكون محدودة وهو كان بذلك يُطمئِن اللّبنانيّين.

3) لو أنّ الحزب فتح الحرب الكبرى كان سيستطيع أن يحرز تقدّماً في الأرض مُبعِداً قوات العدوّ، أو دافعاً لها نحو الجليل حسب خطّة «قوّة الرضوان» على صعوبة هذه الخطّة (لا أزال أفكّر في تلك الخطّة وكيف أنّ القيادة العسكريّة قرّرت خطّة التقدّم نحو الجليل رغم التفوّق الجوي الذي يستطيع أن يُبيد القوات المتقدّمة بسرعة).

4) كان الحزب يستطيع أن يجيّش قوّاته الحليفة، لبنانية وفلسطينيّة، مع أنّ مجريات الحرب لم تُثبِت مشاركة فعّالة مِن قِبل المخيّمات الفلسطينيّة المنشغلة إلى حدّ كبير في حروب العصابات والأزقّة (طبعاً، هذا ليس عفواً بل نتيجة استثمار مالي وسياسي طويل اشترك فيه محمد دحلان [الإمارات] وسلطة محمود عبّاس الرديفة للاحتلال).

5) الأذى كان يمكن أن يكون كبيراً جدّاً لو أنّ الحزب فجّر الجبهة من دون سابق إنذار، كما فعلت إسرائيل فيما بعد.

لكنْ في المقابل، كان هناك محاذير كثيرة لفتح الحرب الكبرى:

1) الحزب كان مخترَقاً، إلكترونيّاً وبشريّاً، وهذا الاختراق كان يمكن أن يشلّ عمل الحزب في الساعات الأولى. كان يمكن للعدوّ أن يفجّر وسائل الاتّصال اللاسلكي في الميدان، مُحدِثاً خسائر كبيرة ومُتسبّباً في عرقلة الخطّة العسكريّة.

2) الحزب لم يكن يعلم عن الاختراق وهذا كان يمكن أن يعطي العدوّ إشارة إنذار مبكر. كان يمكن للعدوّ أن يضرب أوّلاً مستفيداً ممّا كان يحصل عليه من معلومات داخليّة من التجسّس على قيادة الحزب.

3) كان العدوّ سيردّ بعمليات الاغتيال الواسعة التي كانت ستُحدِث إرباكاً كبيراً مُتسبّباً في خلْق وضع ميداني خطير. الحزب في الحرب التي جرت بقي محتفظاً بقوّة الصدّ حتى لو فقد قدراته الردعيّة، رغم خسائره الهائلة.

4) كان لوبي السعودية-الإمارات-إسرائيل في لبنان سيثور ويغضب ويشنّ حملة دوليّة ضدّ الحزب متّهماً إيّاه باتّخاذ قرار الحرب والسِّلم من دون علم الدولة. الردّ العربي والغربي كان سيكون قويّاً جدّاً أيضاً، وكان الردّ سيشكّل أفضل بيئة لتبرير كلّ ما يمكن أن تقوم به إسرائيل من أعمال عدوانية باسم الدفاع عن النفس. لو أنّ الحزب بادر إلى فتْح الحرب الكبرى بعد «الطوفان» كان يمكن لإسرائيل أن ترمي قنبلة نووية تكتيكية على الجنوب من دون عقاب أو استياء مِن الخليج أو مِن الغرب.

5) فتْح المعركة الكبرى مِن قِبل الحزب كان سيفيد إسرائيل لأنّها كانت تعلم بما لم يكن الحزب يعلمه: كان الحزب مخترَقاً حتى العظم، إلكترونيّاً وبشريّاً (لا يمكن الفصل بين الاختراقَين وسأعود إلى ذلك أدناه). أي إنّ الاختراق كان سيعيق أفضليّة موقع المبادرة والمباغتة.

6) ثم هل كان يمكن فتْح المعركة الكبرى فيما لم تكن أطراف أساسيّة مستعدّة لها، أو قابلة بها؟ لم يكن الحشد الشعبي في وارد المشاركة، وهو الذي طوى الصفحة بسرعة عندما تلقّى تهديدات أميركيّة في بداية حرب الإسناد. وعندما نتحدّث عن اختراقات، فالشيعة الحاكمون في العراق هم اختراق كبير في المحوَر.

منذ أنِ استُقبِل نوري المالكي وأحمد الجلبي في لبنان استقبال الأبطال أدركتُ أنّ المؤازرة الطائفيّة طمست الحسابات السياسيّة للحزب، لأنّ الرجلَين شاركا في مشروع الغزو الأميركي على العراق وقطفا ثماره في مجلس بريمر الاحتلالي. هناك أطراف تدعم المقاومة في الحشد، لكنْ هناك أطراف شيعيّة نافذة أخرى تعارضها بقوّة وهي مسؤولة عن استمرار الوجود العسكري الأميركي في العراق. وإيران لم تكن في وارد المشاركة، أي إنّ الحزب لم يكن قادراً على فتْح المعركة الكبرى بسبب القيود الداخليّة والخارجيّة على حدٍّ سواء.

7) فتْح المعركة الكبرى كان ممكناً فقط لو أنّ السنوار شارك باقي أطراف المحوَر بقراره ولو أنّهم (على طريقة حرب تشرين) فتحوا المعركة في وقت واحد. لهذا، إنّ خيارات الحزب كانت محدودة جدّاً، وفتْح المعركة المحدودة قد يكون خيار الحزب الوحيد آنذاك، هذا لو أنّ خيار المساندة العسكريّة كان خياره الوحيد.

الخيار السلمي: بناء على ما ورد أعلاه، وبناء على سرّية قرار السنوار، وبناء على القيود التي كبّلت حركة الحزب بعد «الطوفان»، هل كان يمكن للحزب أن يجيّش جمهوره في مظاهرات حاشدة أمام السفارات الغربيّة المشارِكة في حرب الإبادة؟

الخيار هذا لا يتناقض مع سلوك الحزب، إذ هو لجأ في أحيان كثيرة إلى خيارات الاعتصام والمظاهرات السلميّة. وليس من المبالغة القول، وبخاصّة أنّ الحرب المحدودة التي فتحها الحزب لم تؤدِّ إلى تغيير مسار حرب الإبادة في غزّة، إنّ الحزب كان يستطيع أن يحرّك دول الغرب عبر مظاهرات يوميّة حاشدة في نصرة غزّة.

لبنان ليس اليمن من حيث مركزيّة الوجود الديبلوماسي (والعسكري والاستخباراتي) الغربي وكثافته فيه. ولو أنّ الحزب قاد حركة شعبيّة سلميّة في نصرة غزّة، كان يمكن له ضمّ حلفاء غير تقليديّين. طبعاً، كان خصوم الحزب في المعسكر السعودي-الإماراتي-الإسرائيلي سيتّهمون الحزب بنسيان غزّة وكانوا سيسخرون من تحرّكه السلمي.
الحزب في تلك اللّحظة كان مثل عبد الناصر قبل 1967 وبعدها: عندما كان عُرضةً لمزايدات حزب البعث الحاكم في سوريا وسُخريته: دفعوه دفْعاً نحو الحرب، وبعد الحرب اتّهموه بأنّه يخون الاشتراكيّة.
(يتبع)

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة