أسعد أبو خليل
حرب الإسناد: المسار والفرضيّات الخاطئة
واندلعت الحرب الكُبرى، أو أصرّت إسرائيل على إطلاقها بعد أن كانت قد حضّرت كلّ تفاصيل الخطّة قبل شنّ «طوفان الأقصى». هذا بات يقيناً اليوم. لم يكن نصر الله يريد الحرب الكبرى لأسباب عديدة:
(1) إيران كانت مُنشغِلة بالداخل: تحدّيات الاقتصاد نتيجة العقوبات الظالمة وصعود الفريق الإصلاحي غير المُكترث لمشروع المقاومة من أساسه، وكثير منهم معادٍ له. وهذا الفريق هو وطني إيراني لا يشعر بالالتزام بقضايا إسلاميّة أو فلسطينيّة.
(2) الوضع الداخلي اللّبناني لم يكن ملائماً أو مرحّباً: الحزب خسرَ الحليف العوني (الذي بلغَ في الوفاء ما مَثّله السموأل في زمانه) وخسرَ حلفاء سُنّة (معظمهم نتيجة إغواء سعودي)، والانهيار الاقتصادي ضغط على كلّ الشعب اللّبناني. لم يكن هناك من ترحيب أو قبول أو استعداد شعبي للحرب.
(3) أهل الجنوب كانوا يعيشون منذ عام 2000 في بحبوحة وازدهار نسبي. وهم عمّروا ما تهدّم في حرب تمّوز بفضل الحزب وإيران. الحرب لم تكن أبداً في حسبانهم أو مُرادهم.
(4) لبنان كان في وضع سياسي غير مستقرّ وأسهم الحزب في عدم الاستقرار بسبب عناده في مسألة الرئاسة: إمّا سليمان فرنجيّة أو لا أحد. لو أنّ الحزب توصّل إلى تسوية رئاسيّة مع التيار العوني، كان استطاع أن ينعَم بجوّ سياسي مُتعاطِف، أو أقلّ ضغطاً.
(5) كان الإقليم في مناخ التطبيع وتوسيع نطاق الاتّفاقيات الإبراهيميّة. العداء للحزب في العالم العربي (رسميّاً وحتى شعبيّاً) كان قد عمَّ.
(6) لا أدري إذا كان الحزب قدّر أنّ إسرائيل ستتفوّق هذه المرّة على سجلّها في الوحشيّة وفي جرائم الحرب المروّعة.
بدأ الحزب إطلاق النار في مزارع شبعا حصراً. والاختيار كان ذا دلالة فارقة. أراد الحزب أن يُرسل إلى العدوّ أنّه برغم المساندة الناريّة فإنّه يريد أن يُبقيها في حدود الضوابط المُتّفق عليها. وهنا كانت الخطيئة الأولى. كيف يمكن أن يفترض المرء أنّ بإمكانه إلزام العدوّ بحصر حركته في خطوط حمر أو ضوابط معيّنة بناء على «تفاهم نيسان» أو غيره. هذه استثناءات في مسار الصراع مع إسرائيل، كما أنّ العدوّ استمرّ في الاغتيالات في قلب لبنان، برغم التفاهمات المُفترَضة.
أذكر أنّني أصبتُ بالصدمة عندما قال نصر الله في آخر خطاب، إنّ إسرائيل خرقت كلّ الخطوط الحمر. مصدر دهشتي أنّ نصر الله درسَ العدوّ كما لم يدرسْه زعيم عربي، وكان يصرف الساعات يوميّاً في دراسة العدوّ من كل الجوانب. نصر الله (والحزب تحت قيادته)، أخذ دراسة العدوّ على محمل الجدّ (حسب ما أخبرني هو بنفسه عندما سألتُه ذات مرّة عن قراءاته اليوميّة). لكنّ التاريخ الصهيوني منذ الثلاثينيّات من القرن الماضي، يقطع بأنّه عدوّ لا يمكن تصديق مزاعمه وإعلاناته أو افتراض احترامه لتوقيعه. نحن في لبنان أدرى مِن غيرنا بأنّ إسرائيل لا يمكن أن تلتزم بمواثيق أو معاهدات أو تفاهمات. على العكس، هي تستفيد من كونها لا تُخضِع نفسها لضوابط، وترى أنّ التزام العرب الصارم بالأخلاقيّات والضوابط هو نقطة ضعف لهم.
لاحظ الصديق طريف الخالدي مثلاً، أنّ إيران والحزب التزما في الصراع الأخير، وبصرامة شديدة، بعدم إلحاق الأذى بمدنيّين في الطرف الآخر. في المعركة وفي الضغط السياسي هذا أضعفَ موقف الطرفَين (بالنسبة إلى إسرائيل) لأنّ إسرائيل كانت تُرهب الفلسطينيّين واللّبنانيّين بقصف لا يميّز بين عسكريّين ومدنيّين.
هل أنّ الحزب وإيران ظنّا (خطأً طبعاً) أنّ الغرب سيلاحظ ضوابطهما الأخلاقيّة وأنّه سيكافئهما عليها؟ هل أنّ الغرب في تصنيفاته عن الإرهاب يلتزم بمعايير علميّة (لا سياسيّة) وأنّه سيزيل من قوائمه الهزليّة دولاً وأحزاباً إرهابيّة (هو أزال «القاعدة» في سوريا عن قائمته لأنّه لاحظ تودّدها الذليل نحو إسرائيل)؟ الغرب لا يحكم بالعدل والإنصاف، وهو لا يزال متعنّتاً (حتى في أوساط اليسار) في رفْضه قبول وصْف الإبادة لِما تفعله إسرائيل في غزّة، برغم حُكم منظّمات حقوقيّة وخبراء إبادة أكاديميّين، وأخيراً حُكم لجنة متخصّصة في الأمم المتحدة؟
المهم، أنّ فرضيّة أنّنا نستطيع أن نُلزم العدوّ بضوابط هي فرضيّة لا تستند إلى تاريخ الصهيونيّة. لنأخذ اتّفاقية الهدنة الشهيرة التي لا يزال الجميع في لبنان يلهج بحمدها: العدوّ لم يحترم توقيعه منذ الأيام الأولى. هو كان يدخل متى يشاء، ويخطف مَن يشاء، ويُطلق النار على مَن يشاء، وهو فرَض تحديداً غيرَ معلنٍ على نوع سلاح الجيش في الجنوب، وكان عبر أميركا يمنع أيّ تسليح (ولو مجّاني من دول عربيّة) لحماية لبنان من عدوان إسرائيل (الطريف أنّ جوزاف عون، عندما كان قائداً للجيش، طلعَ بنظريّة جديدة حول حرمان الجيش اللّبناني من السلاح الرادِع والفعّال). هو برّأ ساحة أميركا التي هي تمنع تسليح الجيش بأمر من إسرائيل، وقال إنّ السبب الحقيقي هو عدم وجود ميزانية للتسليح: أي أنّ العقبة مالية فقط.
إٍسرائيل استغلّت التصريحات المُتكرّرة عن إصرار الحزب على الامتناع عن توسيع الحرب وتعاملت معها على أنّها دليل ضعف. لكنّنا لا نعلم سبب تردّد الحزب حتى بعد توسيع إسرائيل للحرب فور بدء إطلاق النار في مزارع شبعا
هو يعلم أنّنا نعلم أنّ أميركا تاريخيّاً في السبعينيّات مثلاً منعت مِنَحاً سخيّة جدّاً لتسليح الجيش من ليبيا والعراق ودول الخليج. كان هذا مشروع تسليح جدّي في 1973 وعطّله رئيس الجمهورية آنذاك وكان إلياس سابا وزيراً للدفاع (للأسف لم يتحدّث سابا عن الموضوع في تاريخه). وسبب الخلاف بين فرنجيّة وجريدة «النهار» في تلك السنة، هو أنّ الجريدة نشرت ملفّاً (سرقه مراسل لـ«النهار») فيه معلومات عن تعطيل الدولة لتسليح الجيش.
ثم، الدولة رفضت هبات عسكريّة فاعلة من روسيا وإيران، في السنوات الأخيرة ربّما لأنّها مكتفية بالطوافات الزجاجيّة (التي يمكن إسقاطها بإجاصة أو إجاصتَين) أو طائرات رشّ المبيدات، والتي تُطلق عليها السفارة الأميركيّة صفة «سلاح جوّي» لخداع الساذجين أو الحالمين من الشعب اللبناني.
حرب الإسناد كانت فرصة للعدوّ كي ينقضّ، لكن في زمانٍ يحدّده هو. ومسار حرب الإسناد أشار مبكّراً إلى أنّ شيئاً ما غير سويّ في المعركة. كان الحزب يفقد أعداداً كبيرة من المقاتلين في اليوم الواحد، فيما كان عدد ضحايا الحزب في حرب تمّوز قليلاً نسبيّاً. هذا المؤشّر الخطير كان يمكن أن يشكّل دافعاً للحزب للانكفاء أو التحفّظ قليلاً بانتظار إجراء تحقيقات حول ثغرة أمنيّة عميقة. كانت إسرائيل تصل إلى كوادر في فرقة «الرضوان» أثناء قيامهم بمهامهم، وهذا دليل مؤكّد على اختراق ما، إلكترونيّاً كان أم بشريّاً. وعندما أطلّ أمين عام الحزب في خطاب وطالب بالحذر من الهواتف لأنّها تشكّل مصدراً للاختراق، تأكّدنا أنّ هناك اختراقاً.
ألم يكن أفضل للحزب لو أنّه أعاد النظر بمسار المعركة؟ لكن يمكن إعادة النظر بالمعركة بعد فتحها؟ وهل كان من الممكن وقْف المعركة، وبخاصّة أنّ العدوّ كان يعدّ العدّة بانتظار الوقت المناسب للقضاء على قيادة الحزب وترسانته؟ الوضع كان صعباً للغاية. تعلم أنّك لا تستطيع أن تتقدّم (أي أن توسّع الحرب بمبادرة منك) ولا تستطيع أن تتراجع لأنّ ذلك مِن مَعالم الضعف. قرّرَ الحزب عندها الاستمرار في المعركة محاولاً سدّ الثغرات. وقرأنا أنّ إسرائيل اخترقت الخطوط السلكيّة الداخليّة للحزب، هذا من دون حسبان للخطوط اللّاسلكية (وسائل اتّصال وهواتف)، لأنّها كلّها من صنع يسهل على إسرائيل وأميركا اختراقه بسهولة.
هناك أسباب عدّة طرحتُها مِن قَبل لانخراط الحزب في الحرب. الحزب كان يعلم -وعن حقّ- أنّ العدوّ سيشنّ الحرب عليه، لأنّه يريد التخلّص من أعدائه بعد «الطوفان». قرّر الحزب أن يختارَ هو الزمان والمكان المناسبَين مفترضاً عن حسن نيّة التزاماً من العدوّ بمحدوديّة الحرب. نصر الله في أثناء الحرب كرّرَ معارضة الحزب للدخول في الحرب الكبرى وهو طمأن اللّبنانيّين، وبصدق، أنّه لن يُوسِّع الحرب. كان متأكّداً (خطأً) أنّ الحرب لن تتوسّع بسبب خوف إسرائيل من قوّة الحزب. هو يستطيع أن يضمن فريقه، لكن لا يستطيع أن يضمن التزام العدوّ. على العكس، إنّ الحزب ظهر بموقف ضعف شديد، عندما أكّد أنّه لن يفتح الحرب الكبرى.
وإيران فعلت الشيء نفسه، منذ أن عانت من اغتيالات إسرائيليّة في سوريا وفي داخل إيران. والحزب، لأنّه ملتزم بصِدق بالأمن اللّبناني، لم يردّ بفاعليّة على سلسلة اغتيالات طاولت قادته في سوريا ثم في لبنان. وحتى عندما اغتالت إسرائيل العروري، في قلب الضاحية تمنّعَ الحزب عن تنفيذ وعده بجعل قصف تل أبيب بموازاة قصف الضاحية. ظهر الحزب ضعيفاً وعدوّنا، لكلّ من درس تاريخه، يستغلّ الضعف ويستغلّ النوايا السلمية كي يتوحّش أكثر.
عندما سكت الحزب عن اغتيالات قادة كبار له في سوريا، علمَ العدو أنّ الحزب مقيّد اليدَين وأنّ إيران لا تريد مواجهة عسكريّة. حتى اغتيال قاسم سليماني، لم يحفّز إيران على الردّ الموجع. عندما تقول لعدوّك إنّك لن تردّ عليه، أو إنّكَ ستردّ عليه بشكل محدود، فإنّك تدعوه كي يستغلّ ما يراه فيكَ من ضعف. التزم الحزب بصرامة باتّفاق وقف الأعمال العدائيّة وهذا ما عدّه العدوّ ضعفاً، لأنّه يعلم أنه ليس من عواقب لعدوانه، وبخاصّة أنّ الحُكم اللّبناني ووسائل الإعلام-التقليديّة و«البديلة» أو «المستقلّة»، أي ذات التمويل الغربي والسورسي-تلوم المقاومة لا إسرائيل على العدوان.
إٍسرائيل استغلّت التصريحات المُتكرّرة عن إصرار الحزب على الامتناع عن توسيع الحرب، وتعاملت معها على أنّها دليل ضعف. لكنّنا لا نعلم سبب تردّد الحزب، حتى بعد توسيع إسرائيل للحرب فور بدء إطلاق النار في مزارع شبعا. أراد الحزب في البداية تسجيل موقف رمزي، فيما باشر العدوّ مطاردة كلّ المقاومين، وكعادته من دون تمييز بين المقاتل والمدني. الحزب ردّ باستهداف مواقع مراقبة واستخبارات، وأعداؤه في لبنان سخِروا من ذلك. أرادوه أن يوسّع الحرب كي يلوموه هو -لا إسرائيل- على الدمار والقتلى. هل أنّ قيادة الحزب شعرت أنّ هناك خللاً ما من ناحية الثغرات الأمنية، لأنّه كان من الواضح أنّ العدوّ يقتل أعداداً كبيرة في اليوم، وبخاصّة في الأسابيع الأولى من الحرب، أم أنّ قيود الحزب الداخليّة، السياسية والمعيشيّة، هي التي كبّلت يديه؟
يُقال إنّ ميشال عون، أرسل في خضمّ الحرب إلى نصر الله، مُبلِّغاً إياه أنّه لا يمكن الفوز في حرب تُخاض لأسباب أخلاقيّة. الحزب أراد الحرب رمزيّاً فقط، لرفْع المعنويات وتسجيل موقف تاريخي وأخلاقي في نصرة غزّة على ضوء شلل عربي، رسمي وشعبي. ولعلَّ الحزب اعتمد على فرضيّة خاطئة أخرى: أنّ أميركا لن تسمح لإسرائيل بحرب طويلة، وأنّها سرعان ما ستضغط عليها لوقْف الحرب. أو أنّها افترضت أنّ العدوّ لا يخوض حروباً طويلة. لكنّ عدوّنا لا يلتزم بعقيدة أو مبدأ. هذا عدوٌ يستعملُ قادتُه الدينَ لتسويغ أعمالهم حتى لو كانوا من الملاحدة.
(يتبع)