آخر الأخبار

من دريفوس إلى غزّة: قرن من الصراع

2

قاسم س. قاسم

لم يكن صباح السابع من أكتوبر في عام 2023 يوماً عادياً. سُجِّل هذا التاريخ على أنه اليوم الذي قرّرت فيه مجموعة من أبناء قطاع غزة الوقوف في وجه المحتل الإسرائيلي. لم يبدأ تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي، أو بالأدق الفلسطيني ـ الإسرائيلي (فالعرب قرّروا الخروج من الصراع منذ زمن بعيد)، صباح السابع من أكتوبر، ولن ينتهي بمجرّد دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ في العاشر من أكتوبر. هذا الصراع قديم ومستمر، وبدايته كانت عندما قرّرت السلطات الفرنسية سجن الضابط الفرنسي اليهودي، ألفريد دريفوس، في عام 1894.

في أكتوبر من ذلك العام، اتّهم جهاز الاستخبارات الفرنسي دريفوس بتسريب أسرار عسكرية إلى ألمانيا. اعتُقل الضابط، وحُوكم، وأُدين سراً، وجُرِّد علناً من رتبته العسكرية، وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. اعتبر يهود أوروبا أن محاكمته موجّهة ضدهم، وأن هناك حملة من معاداة السامية داخل الجيش والجهاز القضائي الفرنسيَّيْن. لاحقاً، انكشف أن المتهم الحقيقي كان الضابط فردينان فالسن إسترهازي، وأن القيادة العسكرية الفرنسية أخفت الحقيقة لحفظ ماء الوجه.

أثار ذلك فضيحة عُرفت بـ«قضية دريفوس»، قسّمت المجتمع الفرنسي بين «الدريفوسيين» المدافعين عن العدالة، وخصومهم. تدخّل الأدباء والمفكرون أمثال إميل زولا بمقاله الشهير «إني أتهم»، ما أدّى إلى إعادة المحاكمة وتحويل القضية إلى صراع حول حقوق المواطنين اليهود والجمهورية الفرنسية.

وعلى الرغم من ثبوت براءته، أصدرت محكمة عسكرية ثانية في عام 1899 حكماً مخفّفاً ضده. ولم يستعِد دريفوس اعتباره إلّا بعد ست سنوات، إلا أنه سرعان ما تعرّض في عام 1908 لمحاولة اغتيال أثناء حضوره نقل رفات إميل زولا إلى مقبرة العظماء، من دون أن ينال حقه من المحكمة التي برّأت المعتدي عليه.

ما علاقة هذا الأمر بغزة؟ في تلك الفترة، غطّى صحافي نمسَوي يهودي يعمل في صحيفة فرنسية، اسمه تيودور هرتسل، مجريات قضية دريفوس. أثّرت قضية دريفوس في هرتسل، الذي اعتبر أنها تحوّلت إلى حملة عداء ضد اليهود. بالنسبة إلى هرتسل، كشفت هذه القضية أن اندماج اليهود في أوروبا وهْم، وهو قال إن أكثر ما أثّر فيه هو هتافات «الموت لليهود» التي تردّدت في الشوارع الفرنسية، ما دفعه إلى التخلّي عن «أمل اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية» والدعوة إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، معتبراً أن «اليهود لن ينالوا احترام الشعوب الأخرى إلا إذا امتلكوا وطناً لهم».

كما دفعت محاكمة دريفوس، هرتسل، إلى كتابة كتابه «دولة اليهود» عام 1896، ومثّلت لاحقاً أحد أسباب عقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، وكلّنا نعرف ماذا جرى بعد ذلك. من هنا، بدأ تاريخ الصراع مع الإسرائيليين، وليس من السابع من أكتوبر 2023.

ما جرى في غزة في العامين الماضيين صراع يفوق عمره المئة عام، وهو صراع ممتدّ لن ينتهي اليوم أو غداً، وقد يمتد مئة عام أخرى. ما فعله الغزيون صباح السابع من أكتوبر، أنهم امتلكوا زمام المبادرة بأيديهم، ونفّذوا عملية ضريبتها كبيرة، إذ دمّر العدو الإسرائيلي ما يزيد على 90% من قطاع غزة، وألقى 125 ألف طن من المتفجّرات، أي ما يقارب ثماني قنابل ذرية مثل تلك التي أُلقِيت على هيروشيما. ومع ذلك، بقي أهل غزة صامدين في أرضهم ولم يتزحزحوا عنها.

عاشوا الأهوال وأشياء لا يمكن لعقل بشري أن يتخيّلها. تخيّلوا أن تمرّ امرأة على حاجز إسرائيلي وهي تنتقل من شمال القطاع إلى جنوبه، فيُطلق قنّاص إسرائيلي النار على طفلها الذي يسير قربها. ثم عندما وقفت وبدأت بالصراخ، طلب الجنود منها إكمال سيرها وترك ولدها، إلا أن الأم المفجوعة لم تستجب لهم، فسحبوا طفلها الثاني من على صدرها وأطلقوا النار عليه أمامها، لتضطر بعدها إلى ترك طفليها خلفها. هذا بعض مما جرى في غزة.

يحقّ لأهل غزة اليوم أن يستريحوا ويلملموا بقاياهم. الحرب بشكلها الحالي انتهت، لكنّ هناك حرباً أخرى ستدور داخل كل غزّي، وهي معالجة التداعيات النفسية لهذه الحرب. نحن في لبنان عشنا حرباً لمدة 66 يوماً، لم يكن الموت فيها بحجم ما جرى في غزة، لكننا، رغم مرور عام تقريباً على وقف الحرب، لم نَشفَ من تداعياتها. مبروك لأهل غزة وقف إطلاق النار، ومبروك لمن بقي حياً بقاؤه ليعيش يوماً آخر نكاية بالعدو

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة