آخر الأخبار

قداس الميلاد في غزة.. رسالة صمود ووحدة في وجه الحرب الإسرائيلية والاقتلاع

600283601

في قطاعٍ ما زال يضمّد جراحه بعد حرب طويلة ومدمرة، أُضيئت شمعة الميلاد داخل كنيسة العائلة المقدسة في غزة، لتتحول الصلاة إلى موقف إنساني جامع ورسالة صمود تؤكد أن أهل القطاع، بمختلف طوائفهم وأديانهم، باقون على أرضهم رغم الدمار والحصار ومحاولات التهجير.

أقيم قداس عيد الميلاد في كنيسة العائلة المقدسة دير اللاتين في مدينة غزة، في أجواء هادئة ومهيبة وبحضور محدود من أبناء الطائفة المسيحية ورجال الدين، في أول احتفال جماعي من نوعه منذ دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، بعد أشهر طويلة من توقف الشعائر الدينية نتيجة القصف الإسرائيلي والنزوح الواسع الذي طال المدينة ومحيط الكنيسة.

لم يكن انعقاد القداس حدثًا دينيًا فحسب، بل شكّل فعل بقاء ورسالة حياة، خاصة أن الكنيسة نفسها كانت خلال العدوان ملجأ لعشرات العائلات النازحة من مسيحيين ومسلمين، وتعرضت مرافقها الخارجية لأضرار جسيمة جراء القصف والانفجارات القريبة، وتحطمت نوافذها وتشققت جدرانها، فيما بقي محيطها منطقة غير آمنة لفترات طويلة.

سبق قداس الميلاد وصول بطريرك القدس للاتين الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا إلى قطاع غزة في زيارة رعوية استمرت ثلاثة أيام، رافقه خلالها النائب البطريركي العام المطران وليم شوملي وعدد من الكهنة، وهدفت الزيارة إلى بدء احتفالات الميلاد، والاطلاع على أوضاع رعية العائلة المقدسة، وتحديد أولوياتها، ومتابعة جهود الإغاثة الإنسانية ومبادرات إعادة البناء الجارية.

وشملت الزيارة تفقد المشاريع الإنسانية القائمة، ولقاءات مع رجال الدين المحليين وأبناء الرعية، في تأكيد على عمق الروابط بين مسيحيي غزة وبطريركية القدس، وعلى التزام الكنيسة بمرافقة المؤمنين في أحلك الظروف. واستُقبل الوفد بحفاوة من أبناء الرعية، فيما قدّم الأطفال استقبالًا بسيطًا بالأغاني الميلادية والفعاليات الرمزية التي أعادت إلى المكان شيئًا من الفرح، بحضور كهنة الرعية والراهبات العاملات فيها.

في كلماته، عبّر البطريرك عن شعوره المختلف في هذه الزيارة مقارنة بزياراته خلال الحرب، مشيرًا إلى أنه وللمرة الأولى يشعر بشيء من الراحة للقاء أبناء الرعية، رغم قسوة الواقع. وأكد أن شعلة الأمل لا تزال حاضرة من خلال الأطفال والمدرسة والأنشطة المجتمعية، ناقلًا تضامن الكنائس والمؤسسات والأشخاص من مختلف أنحاء العالم مع غزة في هذه المرحلة.

خلال عظته في قداس الميلاد، ركز البطريرك على أن المرحلة الحالية لا تقتصر على النجاة من الحرب، بل تمثل بداية لمسار إعادة بناء الحياة، داعيًا إلى حمل روح الميلاد بما تحمله من نور وحنان ومحبة، رغم صعوبة الواقع. وأشار إلى أن قصة ميلاد المسيح في ظروف قاسية دون مأوى تعكس ما يعيشه أهل غزة اليوم، مؤكدًا أن طريق الله هو طريق الفقراء والبسطاء.

وشدد على أن التاريخ لا تصنعه القوة ولا الإمبراطوريات، بل تصنعه خيارات الناس وثباتهم، داعيًا أبناء الرعية إلى التمسك بالمحبة والثقة والمثابرة على فعل الخير. كما أكد أن إعادة البناء لا تقتصر على الحجر والمدارس والبيوت، بل تبدأ بشفاء القلوب، معتبرًا أن المحبة وحدها قادرة على إعادة إعمار ما دمرته الحرب.

وأكد البطريرك أن مسيحيي غزة متجذرون في أرضهم، ولن يتحولوا إلى وجود هامشي أو مؤقت، بل يسعون إلى أن يكونوا مرجعية ثابتة للحياة في مدينة أنهكها الدمار، داعيًا إلى الوحدة والتكاتف للمضي قدمًا في إعادة بناء غزة ماديًا ومعنويًا.

وفي سياق الزيارة، توجّه الوفد أيضًا إلى كنيسة القديس برفيريوس للروم الأرثوذكس، حيث التقى كاهن الرعية، في رسالة واضحة على وحدة المسيحيين في غزة وتكامل حضورهم في مواجهة الألم المشترك.

لم يكن قداس الميلاد في غزة حدثًا معزولًا عن محيطه الإنساني، بل تجسيدًا لوحدة الغزيين في مواجهة الحرب والحصار. ففي مدينة يقدَّر عدد مسيحييها ببضع مئات فقط، يتمركزون في مدينة غزة، بدا واضحًا أن الألم واحد، وأن الصمود بات هوية جامعة تجمع المسلمين والمسيحيين في معركة البقاء والدفاع عن الحق في الحياة والكرامة.

وفي ختام هذه المشاهد، جاء البيان المشترك الذي أصدره عدد من رجال الدين المسيحيين ليضع قداس الميلاد في سياقه الأخلاقي والإنساني الأوسع، متسائلين عن معنى الاحتفال فيما لا يزال شعب غزة يعاني من آثار الحرب والدمار والإبادة، فيما يواصل الجيش الإسرائيلي القتل، ويموت الناس جوعًا ومرضًا وبردًا.

وأشار البيان إلى أن الرعب لا يقتصر على غزة، بل يمتد إلى الضفة الغربية حيث تتصاعد الاغتيالات والاعتقالات الجماعية وهدم البيوت ومصادرة الأراضي، إلى جانب اعتداءات المستوطنين. وأكد الموقعون أن الرسالة المنبعثة من بيت لحم والناصرة والقدس واضحة، وهي أن المساواة لا بد أن تتحقق، والظلم لا بد أن ينتهي، وأن النور سينتصر في النهاية، معتبرين أن الاحتفال بالميلاد هو إعلان للحياة في وجه الموت والظلمة.

وكانت كنيسة “العائلة المقدسة” قد تحولت خلال العدوان الإسرائيلي إلى ملجأ لعشرات العائلات النازحة. كما تعرض جزء من مرافقها لأضرار خلال القصف، ما جعل إقامة القداس بحد ذاته رسالة صمود واستمرار للحضور المسيحي في غزة.

ويُقدَّر عدد المسيحيين في قطاع غزة ببضع مئات فقط، معظمهم من الطائفة الأرثوذكسية والكاثوليكية، ويتمركزون في مدينة غزة، ويواجهون، شأنهم شأن باقي السكان، ظروفًا معيشية وإنسانية قاسية بفعل الحرب والحصار المستمرين.

وخلال أشهر العدوان الإسرائيلي على غزة، أصابت قذائف وانفجارات قريبة مباني مجاورة للكنيسة، ما أدى إلى تضرر أجزاء من مرافقها الخارجية، وتحطّم نوافذ، وتشققات في بعض الجدران كما تعرّض محيط الكنيسة لقصف متكرر، ما جعلها منطقة غير آمنة لفترات طويلة.

وفي إحدى الغارات، أُصيب عدد من المدنيين الفلسطينيين الذين كانوا قد لجأوا إلى محيط الكنيسة بحثًا عن مأوى، فيما أكدت مصادر كنسية أن الكنيسة كانت تؤوي عشرات العائلات النازحة، من مسيحيين ومسلمين، في فترات متقطعة من العدوان، بعد تدمير منازلهم أو اضطرارهم للنزوح القسري.

بهذا المعنى، لم يكن قداس الميلاد في غزة مجرد طقس ديني، بل شهادة إنسانية على مدينة ترفض الانكسار، وشعب يؤكد، بمسيحييه ومسلميه، أن غزة ستبقى حية، وأن الإيمان بالحياة أقوى من كل أدوات الحرب.

 

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة