لم تكن الحرب الأخيرة مجرّد أحداث أمنيّة وعسكريّة أو تحوّلات سياسيّة، بل سلّطت الضوء على مشهد متعدِّد الطبقات يتجاوز ما تتداوله وسائل الإعلام والمحلّلون السياسيّون. فالأحداث المرئيّة تعكس واقعاً رمزيّاً عميقاً، قد يغيب عن الوعي العام، رغم أنّه المحرّك الفعليّ لتلك الظواهر. قراءة الظواهر من دون فهم بنيتها الداخلية تجعل أي تحليل يركز على ما يبدو، من دون إدراك الأسباب الرمزية التي تشكّل سلوك الجماعة واستجابتها للأحداث. يصبح تحليل الخطاب السياسي هنا ضرورة لفهم كيفية تحويل القائد الرموز إلى إطار إدراكي للجماعة، وليس مجرد أدوات لتحديد المواقف السياسية أو التكتيكية.
توضح خطابات السيد حسن نصرالله هذه الديناميّة، إذ هي تتضمن:
– تأكيداً للنصر المتجدّد (كما كنت أعدكم بالنصر دائماً أعدكم بالنصر مجدداً)،
إعلان التحوّلات التاريخيّة (ولّى زمن الهزائم وجاء زمن الانتصارات)،
– واستعدادات ميدانيّة مستقبليّة (كونوا مستعدين ليوم إذا فُرِضت فيه الحرب على لبنان أن تطلب منكم قيادة المقاومة تحرير الجليل)،
– وطموحات رمزيّة (إننا أقرب ما نكون إلى القدس وإلى تحريرها – سنصلي في القدس).
هذه العبارات، لا تشكل مجرّد شعارات تحفيزيّة للجمهور أو أدوات لإدارة الحرب النفسيّة، أو رسائل ظرفية، بل تحوّل الخطاب السياسي من فعل إجرائي إلى إطار معرفيّ يدمج بين بعدين مترابطين: البعد الغيبي-الرمزيّ، الذي يمنح الوعد قوة تتجاوز القيود التاريخيّة، والبعد العمليّاتي، الذي يربط الرموز بالإنجاز العسكري المُفترَض ليُضفي ملموسيّة على الطموح الغيبي.
تتجاوز خطابات السيد نصرالله حدود القوانين الاجتماعيّة العامة التي تنظّم حركة الإنسان في التاريخ، كما فسَّرها محمد باقر الصدر ومرتضى مطهري، أو النماذج الغربية لفلاسفة التاريخ والاجتماع، مثل توينبي وأوسفالد شبينغلر وفيلهلم دلتاي، لتقدّم قراءة للمستقبل ضمن معطيات تاريخية محددة في الإطار الزمنيّ الراهن، مصاغة بطريقة تشبه القضايا الخارجية لا الشرطيّة من منظور منطقي، في ما يمكن اعتباره مفارقة لاهوتية ربّما غير مسبوقة ضمن الفكر الشيعي.
من منظور فلسفة التاريخ، هناك فرق بين القراءة السننيّة التي تستشرف المستقبل باستخدام أدوات شرطيّة مثل: «إذا»، «لو»، و«إنْ»، وبين القراءة الحتمية التي تُصاغ بلغة يقينيّة لا تستعمل أدوات الشرط، مثل: «حتماً»، «قطعاً» كما وردت في خطابات السيد نصرالله.
التحدّي هنا يتجاوز مجرّد الإيمان بالغيب، إذ غالباً ما يتحوَّل اليقين من تجربة روحيّة فرديّة للقائد إلى مرجع لتفسير الواقع السياسي والعسكريّ، إذ تصبح الرموز جزءاً أساسيّاً من قراءة الأحداث اليوميّة، ويُفهم الواقع في ضوء هذا الإطار الرمزيّ.
في هذا السياق، يظهر مفهوم «لاهوت البداء» عند الشيعة كأداة معرفية لتحليل الخطاب السياسي، تتيح محاكمة الحتميات الرمزيّة المفترضة فيه. من خلال هذا المفهوم، الذي يعمل كـ«هادم الحتميات المستقبلية»، يتحوّل اليقين بالغيب من حالة قطعية إلى احتمالات قابلة للتغيير وفق التحولات الواقعية. بهذا، يعاد تشكيل العلاقة بين البعد الغيبي للرموز والبعد الواقعي للأحداث، فيتحوّل الخطاب من مجرّد أداة لتشكيل المخيال الجماعي وصياغة الهوية الرمزية إلى بنية معرفية قابلة للتحليل العلمي والدراسة النقدية.
مع مرور الوقت، تحوّلت الرموز في خطاب السيد نصرالله إلى شبه سردية متجسّدة؛ أي رؤية تتغلغل تدريجيّاً في البنية النفسيّة–الاجتماعية للأفراد، وتتجسّد في الممارسات اليوميّة، لتصبح الإطار الإدراكي الذي يرى من خلاله أفراد الجماعة أنفسهم والعالم المحيط بهم. ضمن هذا السياق، تشكّلت ثقافة جماعية تمحورت حول وعود الانتصار والتحرير، استُبطنت في وسائل الإعلام، الخطب الدينيّة، المناهج التعبويّة، الأناشيد، والأحاديث اليوميّة.
التحدّي الأساسي لا يكمن في كلفة الانتقال وحدها، بل في الشرط المنهجي المسبق لتحقيقه: ممارسة نقد ذاتيّ منظّم، يبدأ بالاعتراف بالإخفاق والفجوة بين الموعود والواقع، وإعادة قراءة التجربة
ومع تكرار هذه العناصر وتراكمها، تبلور نظام معنى عالي الاكتفاء الذاتيّ يمكن أن يصبح الإطار المرجعي الأساسي في تفسير الواقع، مما يضعف لدى بعض الأفراد مرونة التوقعات المستقبلية، هذا يثير السؤال حول كيفيّة تقيّد المجال أمام أدوات القراءة الاحتماليّة للمستقبل، التي تُعدُّ أساس التفكير الاستراتيجي المرن في التعامل مع النتائج كمتغيّرات مفتوحة، وبالتالي تقليل فرص أي قراءة لا تتوافق مع الإطار الرمزيّ المؤسِّس. فتكرار عبارات من قبيل «نحن لا نُهزَم»، يُسهِم إلى حد كبير في تكوين مخيال جماعي يتعامل مع الانتصار بوصفه نتيجة شبه يقينية ما يقلّص مساحة المراجعة والتقييم النقدي.
في هذا الإطار، ربما يصبح الخطاب أكثر من مجرّد أيديولوجيا سياسية؛ فيُشكّل سرديّة تمنح بعض الأفراد تفسيراً إدراكيّاً بأنّهم الفاعل الحاسم في صناعة المستقبل، حيث تُقدّر الأحداث الكبرى مثل تحرير فلسطين أو انهيار إسرائيل، ليس كاحتمالات ممكنة، بل كنتائج مباشرة لأفعالهم.
حين يجد هذا التصوّر الرمزيّ نفسه إزاء وقائع ميدانية مغايرة كما في نتائج الحرب الأخيرة، تبرز فجوة بين ما وُعِد به وما تحقّق فعليّاً، فترتسم حدود السرديّة في التوفيق بين التوقعات الميتافيزيقيّة والقدرات الفعليّة، وتبدأ الفاعلية التفسيرية للقوة الرمزية ووظيفتها المعرفية بالتراجع.
لتقريب القارئ من طبيعة التوتّر المعرفي–الوجودي المفترض، يستند التحليل إلى الملاحظة بالمشاركة والتفاعل مع البيئة الاجتماعية للجماعة، من خلال متابعة سلوك الأفراد وطريقة استيعابهم للخطاب الرمزي، إضافة إلى إجراء حوارات معمّقة كشفت عن وعيهم بالفجوات بين الوعود الرمزية وما تحقق على أرض الواقع.
يمكن تمييز ثلاثة أنماط من الاستجابات لهذه الفجوة:
– الإنكار كآلية تفسير دفاعيّة، حيث يرى بعض الأفراد أنّ النتائج الموعودة لم يأتِ زمنها بعد، لتأجيل الاعتراف بالفروقات بين التوقعات والواقع.
– الإسقاط بتوجيه السبب إلى عوامل خارجيّة، كـ«الخيانة»، لإيجاد تفسير يحافظ على صورة الذات الجماعية. فالأفراد الذين بُني وعيهم على شعار «نحن أقوياء لا نُهزم»، يواجهون تحدّياً في إعادة صياغة سرديّة جديدة للذات تتضمّن: الضعف، الخطأ، المراجعة.
– تراجع المعنويات، الذي لا يقتصر أثره على إحباط سياسي، أو فشل تكتيكي، بل انزياح وجوديّ يهزّ البنية الإدراكيّة للجماعة، ويؤثِّر على شعور بعض أفرادها بالمكانة التي اعتقد أنّه يملكها في التأثير وصناعة الأحداث، ما يدفعه إلى إعادة تقييم علاقته بالرموز والمستقبل.
من دون وعي استراتيجي واقعي، قد يحدث ما يمكن وصفه بـ«تجاوز النبوءة»، حيث تتمدّد السردية الميتافيزيقية خارج حدودها الطبيعية، ما يؤدّي إلى تحميل الرمزيّة الغيبيّة توقعات لا يمكن تحقيقها ميدانيّاً، وتنتج منه صدمة معرفية بين التوقعات والقدرات، حتى لو افترضنا النبوءة صحيحة في ذاتها.
وتتيح هذه المقاربة العمليّة فهْم أربعة أبعاد للفجوة بين الرمزي والواقعي (بين ما وُعِد به، وما اعتقده الأفراد، وما تحقق فعلياً):
– التنافر المعرفي: يظهر عندما يواجه الأفراد واقعاً لا يتوافق مع وعود النصر والتحرير، ما يدفع البعض إلى إعادة ترتيب معتقداتهم، إما بمحاولة تبرير الفجوة أو تقييم قدرة الجماعة على تحقيق ما وعدت به القيادة.
– العجز المتعلّم: تجربة الفشل أو فقدان القدرة على التحكّم في مسار الأحداث تقلّل شعور بعض الأفراد بالفاعليّة وأنّ أي فعل لن يغيّر النتائج، فتضعف روح المبادرة والاستجابة للمستجدات.
– صدمة السردية المركزيّة: انهيار الإطار الرمزي يخلق فراغاً وجودياً وثقافياً. ويهدّد السردية حول القدرة والانتصار، ممّا يولّد ارتباكاً تجاه تفسير مسار الأحداث التاريخية.
– توقّع اختلاف: الفارق بين ما وعد به الخطاب الرمزي وما تحقق فعليّاً يولِّد إحباطاً معنوياً وفقدان ثقة في المصادر الرمزية.
مع تعقّد اللحظة الراهنة، تبرز الحاجة إلى الانتقال من تشخيص الأزمة إلى البحث عن تصوّر معرفيّ أكثر مرونة لإعادة قراءة المستقبل بعيداً عن منطق الحتميات. المقاربة المطلوبة ينبغي أن تكون مفتوحة للنقاش، تعمل كأداة نقدية لفحص النظام الرمزي السابق، وإعادة الغيب إلى مجاله الطبيعي دون تحويله إلى برنامج عملياتيّ.
غير أنّ تقديم سرديّة بديلة ليس خطوة بلا كلفة؛ بل يواجه تحدّيات منهجيّة، فالبنية التعبوية لخطاب حزب الله تشكّلت على مدار سنوات حول شبه يقينيات ومنظومة رموز عملت كـ«عقود ثقة» بين الجماعة والخطاب أكثر منها أدوات للتحليل السياسي. أي تحوّل نحو سرديّة أكثر مرونة يتطلّب أخذ أثر هذا البناء الرمزي في الحسبان، بما في ذلك تأثيره على تماسك الجمهور، الذي يشكّل إحدى الركائز الأساسية لبنية الخطاب.
لكنّ التحدّي الأساسي لا يكمن في كلفة الانتقال وحدها، بل في الشرط المنهجي المسبق لتحقيقه: ممارسة نقد ذاتيّ منظّم، يبدأ بالاعتراف بالإخفاق والفجوة بين الموعود والواقع، وإعادة قراءة التجربة الرمزية والعملياتية في ضوء ما انتهت إليه الوقائع الملموسة. من دون هذا النقد، ستظل الفجوة بين المخيال الرمزي والواقع قائمة، بما يتيح تكرار التحدّيات نفسها عند كلّ منعطف مفصليّ.
سبق لحزب الله في مراحل من تاريخه، أن أعاد تكييف رؤيته عندما فرض الواقع حدوداً جديدة؛ فقد تبنّى في مرحلة مبكرة مشروع «الجمهورية الإسلامية في لبنان»، ثم تراجع عنه حين أظهرت التجربة اللبنانيّة تعقيدات البنية الطائفية والسياسية، وتبنّى لاحقاً عبارة «لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه»، ما يوضح قدرة الجماعة على مراجعة الرومانسيّة الغيبيّة استناداً إلى معطيات الواقع، وهو درس عملي داخلي يمكنها البناء عليه في المرحلة الراهنة.
يظلّ التباين بين الرمزي والواقعي اختباراً مستمراً لأي جماعة، ليس فقط لمدى قوّتها العسكرية أو نفوذها السياسيّ، بل لمرونتها المعرفيّة وقدرتها على إعادة تفسير الرموز في ضوء التحوّلات.
من هذا المنطلق، يثار سؤال حول ما إذا كان حزب الله قد أجرى مراجعة فعلية لتجربته بعد الأحداث الأخيرة، وهل درس بشكل منهجي الفجوات بين الوعود الرمزيّة وما تحقق على الأرض. إذ يُشكّل هذا الاختبار مؤشِّراً يُقاس به مدى قدرة النظام على التكيّف وإعادة إنتاج ذاته بطريقة متوازنة وواقعية.
* كاتب وأكاديمي