في خضم الدمار الهائل الذي حل بغزة بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة عام 2023، تحولت المدينة المنكوبة إلى ساحة صراع جديدة، هذه المرة على الأرض الاقتصادية والسياسية. فبينما يسعى الفلسطينيون لإعادة بناء منازلهم ومدارسهم ومستشفياتهم، تتسابق الدول على تقديم مساعداتها وإشرافها على مشاريع إعادة الإعمار، ليس فقط لأغراض إنسانية، بل لفرض نفوذها الاقتصادي والسياسي وضمان حصتها من السوق الفلسطيني المتضرر.
تقارير متعددة من الصحافة العربية والدولية تشير إلى أن هذه المنافسة تشمل دولا عربية وغربية على حد سواء، حيث تراهن كل دولة على دورها في إعادة الإعمار لتعزيز مكانتها الدبلوماسية ومكاسبها الاقتصادية، من خلال تأمين شركاتها ومؤسساتها في مشاريع البنى التحتية الحيوية، وتحويل قطاع غزة إلى غنيمة استثمارية وسياسية في آن واحد، بينما يبقى الفلسطينيون في قلب المعادلة، غالبًا تحت ضغط الحاجة الماسة والدور الإقليمي والدولي للأطراف المتنافسة.
وتفيد الأمم المتحدة والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي بأن الخسائر المباشرة للبنية التحتية تقدر بنحو 53.2 مليار دولار خلال 10 سنوات. أمَّا إذا أُضيفت التكاليف غير المباشرة – من إعادة تأهيل الطاقة والمياه والموانئ والبنية المؤسسية إلى الخسائر في رأس المال البشري والإنتاج الاقتصادي – فإن الكلفة الإجمالية قد تتجاوز 80 مليار دولار، وفق دراسة مؤسسة “راند” الأمريكية، التي نُشرت في سبتمبر/ أيلول 2024، دراسة أوضحت فيها أن هذه الأرقام لا تعبّر فقط عن مشروع بناء، بل عن خطة إنقاذ تاريخية تتطلب تمويلًا متعدد الأطراف والتزامًا طويل الأمد يمتد لعقدين على الأقل.
أرقام فلكية تفتح شهية تنافس الدول على إعادة إعمار غزة، والاستثمار في المساعدات الإنسانية والمالية لرسم خريطة نفوذ جديدة، وتحديد الجهات المسيطرة على إعادة البناء، مع ما يحمله ذلك من آثار مباشرة على السيادة الفلسطينية وحقوق السكان المحليين في إدارة مدينتهم ومستقبلهم الاقتصادي.
وكانت مصر من أوائل الدول التي أعلنت في فبراير/ شباط الماضي، أنها تعمل على تطوير خطة لإعادة إعمار غزة دون إجبار الفلسطينيين على الخروج من القطاع، وذلك ردا على اقتراح الرئيس دونالد ترامب بإخلاء القطاع من السكان حتى تتمكن الولايات المتحدة من السيطرة عليه.
مصلحة استراتيجية مصرية
وأفادت مؤسسة العلوم والسياسات (SWP) في برلين، بأن مصر قد تجني فوائد كبيرة من خطة إعادة إعمار قطاع غزة التي تضعها الحكومة المصرية، حيث ستدعم هذه العملية مصالح اقتصادية وأمنية استراتيجية للمسؤولين المصريين.
وأشارت المؤسسة خلال تقرير نشر في أبريل/ نيسان الماضي، إلى أن المشروع سيعزز من موقف مصر الاقتصادي في المنطقة من خلال إشراك رجال أعمال مصريين في مشاريع إعادة الإعمار، ما سيوفر لهم فرصًا ضخمة للاستثمار والبناء.
ووفقًا للتقرير، فإن رجال الأعمال المرتبطين ارتباطا وثيقا بالحكومة المصرية، سيستفيدون من هذا المشروع في العديد من القطاعات الحيوية، بما في ذلك بناء المساكن، وإعادة تأهيل البنية التحتية، وتطوير المنشآت الصناعية في القطاع.
وأكد التقرير أن المشاريع ستعزز من قدرة رجال الأعمال المصريين على توسيع نفوذهم في السوق الإقليمية، وبالتالي ستساهم في تحسين الوضع الاقتصادي في مصر نفسها.
وتستند الفوائد بشكل كبير إلى أن عملية إعادة الإعمار في غزة تستدعي تدفق الأموال من المانحين الدوليين، ما يخلق بيئة مواتية للشركات المصرية للمشاركة في هذا المشروع الضخم. ويرتبط العديد من رجال الأعمال المصريين بشكل مباشر مع الدولة، ما يتيح لهم القدرة على الفوز بالعقود الحكومية التي ستكون جزءًا أساسيًا من عملية إعادة الإعمار.
ورغم هذه الفوائد الاقتصادية المحتملة، فإنه يبرز في التقرير أيضًا التحديات المرتبطة بهذا المشروع، حيث تشير التحليلات إلى أن عملية إعادة الإعمار قد تؤدي إلى تعزيز النظام المصري سياسيا، فمشاركة المسؤولين المصريين ورجال الأعمال في عملية إعادة إعمار غزة قد تُحسن صورتهم داخليًا في مواجهة الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها النظام، مع تعزيز دور مصر كوسيط رئيسي في القضايا الإقليمية.
أما على الصعيد الأمني، فإن مصر ستستفيد من تعزيز موقفها كداعم رئيسي لاستقرار غزة. ويشمل ذلك تأكيد السيطرة المصرية على المنطقة عبر مشاريع تتعلق بالبنية التحتية والطاقة والموانئ، وبالتالي، فإنه سيكون لمصر دور أكبر في ضمان استقرار المنطقة بما يتماشى مع مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
ويشير التقرير إلى أن المبلغ الأممي المقدر للإعمار، يعكس حجم التحديات التي يواجهها المشروع، “لكن مصر، باعتبارها القوة الإقليمية الرئيسية، ستحظى بفرصة التأثير الكبير على طريقة توزيع هذه الأموال، ما يعزز من موقعها في المشهد الإقليمي”.
ورغم امتلاك مصر مقومات جغرافية وخبرة فنية تؤهلها لدور محوري، فإن نجاحها في تحويل هذه الفرصة إلى واقع مرتبط بعوامل تتجاوز قدراتها التقنية، أبرزها مدى التوافق السياسي بين الأطراف الدولية، وآلية تمويل الإعمار، واستعداد الفاعلين الإقليميين والدوليين لمنح القاهرة دور القيادة في المشهد الجديد، وهو ما يجعل مستقبل مشاركتها رهين موازين القوى أكثر من كفاءة الشركات.
دور خليجي تركي
لكن مصر بالتأكيد ليست الدولة الوحيدة التي ستشارك في إعادة الإعمار، فكما تعددت تقديرات تكلفة الإعمار، تعددت أيضًا الجهات التي أعلنت استعدادها للمشاركة في إعادة الإعمار، كما يؤكد تقرير نشرته منصة “نون بوست”، فالسعودية والإمارات تقفان على الخط أيضًا، لكن بشروط في دعم خطة ما بعد الحرب، كما يبرز الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي والأمم المتحدة كشركاء، سواء من حيث التمويل أو الإشراف، إضافةً إلى بنوك التنمية الإقليمية.
وأكد الاتحاد الأوروبي استعداده للمساهمة في إعادة الإعمار للقطاع، مع وجود شركاء إقليميين ودول مختلفة، من بينها تركيا، التي دعا رئيسها رجب طيب أردوغان في وقت سابق إلى إعادة إعمار غزة، ويُتوقَّع أن يدفع باتجاه إشراك شركات المقاولات التركية في مشاريع الإعمار، مستحضِرًا تجربة بلاده السابقة في إعادة إعمار سراييفو.
ووفق التقرير، فإن قطر أيضا تمتلك سجلًا طويلًا في تمويل مشاريع إعادة إعمار غزة، فقد أسست عام 2012 لجنة لإعادة إعمار القطاع، نفَّذت نحو 115 مشروعًا بتكلفة وصلت إلى 407 ملايين دولار، وربما تُفعَّل هذه اللجنة في إعادة الإعمار في هذه المرة أيضًا، ويُتوقَّع أن تضخّ الدوحة استثمارات ضخمة تُموَّل من مؤسسات الدولة وصناديقها الاستثمارية، مع احتمال أن تعتمد على شركات قطرية محلية أو شراكات مع مقاولين أتراك.
دول أوروبية تقف على أبواب غزة
وبعيدًا عن الأضواء، وخلف أبواب مغلقة، استضافت الحكومة البريطانية مؤتمرًا لتبادل الأفكار وحشد التمويل اللازم لإعادة إعمار غزة، بمشاركة دول عدة ومستثمرين دوليين، وأسفر – وفق الحكومة – عن تحقيق تقدم كبير على صعيد إيجاد السبل الكفيلة بتوفير تمويل خاص مستدام لعملية إعادة الإعمار، لكنه لم يخرج عن استغلال الزخم السياسي المتحقق باتفاق وقف إطلاق النار، ورغبة البريطانيين في لعب دور محوري في خطة السلام التي ترعاها إدارة ترامب.
ويقول المنسق العلمي لمرصد البحر المتوسط في معهد القديس بيوس الخامس للدراسات السياسية بروما، فرنشيسكو أنغيلوني، إن الهدنة التي تم التوصل إليها في قطاع غزة خطوة ضرورية بعد عامين من الصراع، لكنها ما زالت هشة للغاية.
ويضيف في حديثه لـ”العربي الجديد” أن الخلافات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، والدور غير المحدد بعد لحركة حماس، والغموض المحيط بحوكمة أموال الدعم الدولي، كلها عوامل تجعل المشهد السياسي والاقتصادي في القطاع شديد التقلب، محذراً من أن غياب التنسيق قد يحول عملية الإعمار إلى مبادرات متفرقة تقوض أهداف الاستقرار والتنمية المستدامة.
ويبين أنغيلوني أن الحكومة الإيطالية، تسعى عبر وزارة الخارجية والتعاون الدولي، إلى أن تكون جزءاً من هذا الجهد الدولي من خلال دعم سياسي وإنساني واقتصادي متكامل، يفتح المجال أمام شركاتها للمساهمة في بناء البنية التحتية والمرافق الحيوية في القطاع.
ويؤكد أن المنافسة ستكون حادة مع دخول شركات تركية مثل ليماك وتيكفين وإنكا، ومصرية مثل المقاولون العرب وأوراسكوم، وخليجية مدعومة برؤوس أموال سيادية سعودية وقطرية وإماراتية، مشيرا إلى أن الشركات الأوروبية والأميركية، مثل فينشي وبويجيس وهوختيف وبيكتل وفلور، تستعد هي الأخرى لاقتناص جزء من العقود في القطاعات الاستراتيجية.
اقرأ المزيد عبر المركز الفلسطيني للإعلام:
https://palinfo.com/news/2025/10/27/979736/