أسعد أبو خليل
حرب الإسناد: السريّة والفرضيّات الخاطئة
قضيّة تفجيرات الـ«بيجرز» هي مِن أسوأ ما لاقاه أعداء إسرائيل منها في تاريخهم، غير الحروب التي شنّها العدوّ عبر العقود ضدّ دول ومنظّمات عربيّة. لنقُلْ، وبألم شديد، إنّها كانت أكبر إنجاز لمخابرات العدوّ ضدّ مقاومين في تاريخه. عمليّة إيلي كوهين لم تكن إنجازاً لمخابرات العدوّ، وهو انتهى على مقصلة. أين النجاح في ذلك؟ على العكس: إنّ المبالغة في نجاحات كوهين والزعم أنّه كان قريباً من صُنّاع القرار (فيما كان هو مجرّد مدير لماخور اجتمع فيه ضبّاط) ليست إلّا تعويضاً عن فشله في مهمّته. مهمّة الجاسوس هي الحصول على المعلومات ومنْع العدوّ من الوصول إليه.
في مسألة الـ«بيجرز»، نصرالله اعترف في خطابه الصعب عنها أنّها كانت بالفعل إنجازاً للعدوّ. كنّا عبر السنوات قد بدأنا نستخفّ بقدرات العدوّ الاستخباراتيّة، ربّما لأنّه كان يريدنا أن ننخدع بسكوته بعض الأحيان. لكنّه ارتكب من الأخطاء ما جعلنا نستخفّ: فضح أمر فريق اغتيال المبحوح في دبيّ وخطف المواطن حسن نصرالله من بعلبك والفشل الاستخباراتي الذريع للعدوّ في حرب تمّوز. هو عجز عن الوصول إلى القادة والكوادر العليا، ولا شكَّ أنّه حاول. هذه الحرب المُدمِّرة كانت تختلف.
عندما كان العدوّ في الأيّام الأُولى من حرب الإسناد يصل إلى أعضاء وكوادر في «الرضوان» (وهم في طريقهم لتنفيذ مهماتهم) كان يعطينا فكرة عن قدراته وعمْق اختراقاته، من دون الحسم هنا إذا ما كانت إلكترونيّة أو بشريّة أو تقنيّة وإجرائيّة. يمكن النظر إلى هذه العمليّة (تفجير الـ«بيجرز») على أنّها ليست براعة من العدوّ بقدر ما كانت فشلاً ذريعاً وتقصيراً فظيعاً من الحزب نفسه، وبخاصّة من أجهزته المتخصِّصة. أشكُّ أنّ العدوّ كان يعتقد أنّه سينجح في هذا المخطّط إلى هذه الدرجة، لكنّ تخطيطه لها يشير إلى استخفافه بالقدرات الأمنيّة للحزب. القصّة كلّها كانت عبارة عن سلسلة من ثغرات وأخطاء وتقصير، وفساد، على الأرجح.
كيف يمكن لحزب مقاوم، يخضع لعقوبات وحروب من دول عربية وغربيّة ومن إسرائيل، أن يوافق على عمليّة شراء عبر الإنترنت وتمرّ بعواصم غير صديقة؟ والإنترنت هي فضاء مفتوح: هي بدرجة العلانيّة نفسها كأن يقوم عنصر أو كادر معروف في الحزب بشراء حاجيّاته من مخزن عام مجهّز بكاميرات مراقبة من كلّ الزوايا.
وقدرات استخبارات الغرب وإسرائيل على اختراق كلّ أجهزة الاتّصال والإنترنت ليست سرّاً، وبخاصّة في ظلّ افتضاح أمر تعاون كلّ شركات الاتّصالات والتكنولوجيا مع إسرائيل. أخبرنا سنودن الكثير الكثير عن هذه القدرات قبل أكثر مِن اثنتَي عشرة سنة. كيف يمكن ألّا يقوم مختصّون بدراسة كلّ تسريبات سنودن وحفْظها عن ظهر القلب وتثقيف كلّ أعضاء الحزب بها؟ كيف يمكن أن تكون مسائل احترازيّة بديهيّة غائبة عن أذهان المسؤولين عن هذا الاختراق الفظيع؟
كنتُ أشكّ أنّ إسرائيل ظنّت أنّها ستستطيع بالفعل أن تجهّز آلاف أجهزة الاتّصال بوسائل تفجير، لكنّها فعلَت ما فعلَته لأنّها آمنت بحظوظ النجاح التي اعتمدت على إهمال الجهاز الأمني للحزب واسترخائه. العدوّ لا يستخفّ بقدرات الحزب الأمنيّة واحترازيّته وحرْصه، أو هذا كان افتراضنا عن العدوّ. لكنْ بين الحزب في الماضي حتى حرب تمّوز وحقبة حرب الإسناد سنوات طويلة تخلّلتها الحرب في سوريا ونشوة الانتصاريّة والاعتزاز بالتفوّق حتى الغرور.
ثمّ، مَن الذي وافق على إتمام عمليّة شراء عبر الإنترنت وبحجم كبير؟ هناك كما قيل لي عمليّة تحقيق يجريها الحزب، على افتراض أنّ اختصاصيّاً تقنيّاً يرأس اللّجنة. والقصّة تبدأ في القرار بطلب شحنة تتضمّن آلاف الأجهزة بعمليّة شراء واحدة. لو أنّ شخصاً ما طار إلى مالطا أو قبرص أو بلجيكا واشترى شخصيّاً أو عبر الإنترنت ما يزيد على مئة جهاز اتّصال، فإنّ الموساد والمخابرات الغربيّة ستتلقّى الخبر على الفور.
هناك بالنسبة إليهم الكثير مما سيثير الشبهة: أنّ رجلاً يطلب مئات من الأجهزة التي لا غرض لها إلّا الاستعمال العسكري أو التنظيمي. فما بالك عندما يكون الطلب من لبنان بالذات، وهو بلد موضوع تحت المجهر أكثر من أيّ وقت مضى بعد هزيمة العدوّ في حرب تمّوز؟ كيف وثق مَن وثق بشبكة الإنترنت؟ هل هناك من يظنّ أنّ هوية المرء تخفى عند تغيير الاسم على المواقع أو في الرسائل الإلكترونية؟
لكنْ ما تسرّب عن صفقة البيجر لا تتعلّق بخطأ تقني ما أو خطأ في الشراء. ولا أعرف شيئاً عن طبيعة التحقيق الذي سيجريه الحزب، لكن: هناك نحو ستة آلاف من القطع الإلكترونيّة، وهذه الطلبيّة الكبيرة تفتح شهيّة الذين يطمعون بعمولة. في تجربة منظّمة التحرير لم ينفصل الفساد المالي والفساد الجنسي عن اختراق العدوّ (وهناك حديث عن دور لامرأة نسّقت مع العدوّ وسوّقت وروّجت لبيع الأجهزة ووعدت بحسومات ويبدو أنّه كان لها دور مِن قَبل في بيع أجهزة للحزب، أو هكذا قرأنا في ما نُشر). كلّ ما نعلمه عن قصّة الـ«بيجرز» لا يطمئِن بالنسبة إلى الحسّ الأمني لمقاومي إسرائيل.
طلبٌ بهذا العدد الكبير من الأجهزة ويتأخّر قرار فحْص الأجهزة نحو سنة؟ والكلام (المنسوب إلى مصادر عدوّة) حول أنّه لا يمكن في الفحْص التوصّل إلى التفخيخ داخل الجهاز غير صحيح وغير منطقي. الصحافة الإسرائيليّة بالغت طبعاً في تعقيد التفخيخ الكامِن وتطوّره. لكن: هناك متفجّرات في داخل كلّ جهاز وهي تستطيع أن تقتل شخصاً، والفكرة أنّ هناك إمكانيّة لوضْع متفجّرة ميكروسكوبيّة لا يُقنِع. نشر الإعلام هناك كلاماً مسرّباً من الموساد عن أنّ التفخيخ كان جزءاً من الشبكة الكهربائيّة والغطاء المعدني، لكنّ تفكيكهما أو عرضهما لتحليل كيميائي في مختبر كان من المحتّم أن يكشف التفخيخ.
إنّ عمليّة تفجيرات البيجر هي واحدة من أكبر إنجازات استخبارات العدوّ بلا منازع، لكنّها في المقابل هي واحدة من أكبر تقصيرات الحزب في تاريخه
فتْح الجهاز وفحْصه مليّاً كان يكفي لكشْف المخطّط الشرّير والإرهابي: وهو أكبر عمليّة استهداف لمقاتلين خارج نطاق الخدمة، والحكومة الأميركيّة في تعريفاتها الرسميّة عن الإرهاب تشمل مع المدنيّين في الاستهداف الإرهابي المُقاتلين والجنود خارج نطاق الخدمة، فما بالك وبعض هذه الأجهزة كانت في أيدي عمّال في منظّمات مدنية، وأن أفراداً في عائلات المُستخدمين قريبون من الأجهزة؟ إنّ فحْص آلاف الأجهزة كلّها غير ممكن عمليّاً، لكنْ في هذه الحالات يتمّ فحْص عيّنة عشوائيّة فقط وهذا كان سيكفي.
وآليّة التفجير المتزامن عبر جهاز تحكّم من بُعد يعتمد على موجة راديو خاصّة تسمح بتوجيه الأمر من دون وضع آليّة توقيت. وهذا النوع يتّسق مع نمط التخريب الإلكتروني الذي اعتمده الموساد مِن قَبل في تفجير أجهزة الطرْد المركزي في إيران.
وبعد افتضاح أمر خرْق الشبكة الأرضية للحزب، وبعد افتضاح استعمال العدوّ للهواتف الخليوية لرصْد المقاتلين والقادة، هناك في الأمن المركزي للحزب مَن قرّرَ أنّ البديل يكمن في شراء آلاف من قطع الـ«بيجرز» وعبر الإنترنت وعبر وسطاء ومن شركات غير معروفة، وفي بلاد معروفة بالوجود الإسرائيلي الاستخباراتي فيها.
ماذا حدث؟ ما تفسير هذا التسيّب والاسترخاء؟ هل أنّ هذا يتأتّى من الشعور بتفوّق القوّة المُسكِر؟ أم أنّ هناك اختراقاً بشريّاً أسهم في تسويق هذه الأجهزة على مسؤولين؟ لكنّ هذا لا يفسَّرُ في حدّ ذاته، لأنّ قادة الأمن يعملون ويتحضّرون لهذه المهمّات: التأكّد من أنّ أجهزة تواصل واتّصالات مشتراة من الخارج بالآلاف لن تكون مفخّخة أو مركّبة بطريقة تُستعمل للتجسّس. في هذه الحالة: كان الأعضاء يحملون من دون عِلمهم أجهزة تجسّس وأجهزة تفخيخ لصالح العدوّ.
والكادران الأمنيّان اللّذان تنبّها إلى الأمر في وقت متأخر (حسب ما ورد في الإعلام الإسرائيلي والغربي): لماذا تأخّرا؟ ما الذي منع الفحص المبكر لها بمجرّد وصولها إلى لبنان؟ ما الذي منع تمريرها في آلة «سي تي سكان» التي كان من المؤكّد أنّها كانت ستكشف محتويات التفجير؟ ثم إنّ استيراد هذه الكميّة الهائلة من وسائل الاتّصال إلى لبنان، تفتح شهيّة كلّ الاستخبارات المعادية للحزب. هي نافذة للعدوّ حتى لو لم تكن إسرائيل قد فخّختها.
إنّ عمليّة تفجيرات البيجر هي واحدة من أكبر إنجازات استخبارات العدوّ بلا منازع، لكنّها في المقابل هي واحدة من أكبر تقصيرات الحزب في تاريخه. هناك مراحل متعدّدة ومختلفة من التقصير ومن الإهمال وربّما من الفساد، والتي سمحت بهذه الجريمة مِن قِبل إسرائيل: قرار استيراد الآلاف من الأجهزة، وقرار الاستيراد من شركات مجهولة أو معروفة ومقيمة في دول معروفة بتحالفها مع مخابرات العدوّ، وقرار جلْبها في عملية واحدة ثم قرار استعمالها من دون مسيرة معقّدة من التدقيق والتحقيق وفحْص عيّنة عشوائيّة منها، هذا في مسائل الدول العاديّة يندرج في إطار الإهمال الجُرمي.
إنّ هذه المسألة تطرح مرّة أخرى التواطؤ الجُرمي لمجموعة 14 آذار في قرارات 5 أيار التي سبقت 7 أيّار في عام 2008. لا يمكن افتراض براءة من هذه الضجّة التي أحدثها موضوع شبكة الاتّصال الخاصّة بالحزب. الشبكة كانت -افتراضاً- تُزعج فقط إسرائيل والذي فجّر القضيّة والذي جال على سفارات الدول الحليفة لإسرائيل عارضاً خريطة الشبكة كان يقدّم خدمة (عفويّة؟) لإسرائيل.
لكن من غير المفهوم بعد إعلان تبنّي كلّ فريق 14 آذار بالتوازي مع الدول الحليفة لإسرائيل لمشروع القضاء على شبكة اتّصال الحزب، أنّ الأخير قرّر الاستمرار في استعمال الشبكة حتى افتضاح اختراقها في حرب الإسناد، أو في الاستمرار في استخدامها أحياناً حتى بعد افتضاح اختراقها. الذي سمح لأمين عام الحزب بالتحدّث على الشبكة أضرّ بأمنه الشخصي. وهنا: سؤال مرّة أخرى عن جهاز أمن الأمين العام للحزب، والذي رغم إخلاصه وتضحياته، ربّما تساهل مع نصرالله وليس عن سوء نيّة بالضرورة. لكنْ في حماية الشخصيّات الكبرى هناك عزْل ضروري للعاطفة والودّ والتعامل مع الأمن الشخصي للزعيم بصرامة لا بل وبقسوة.
إذا كان الحزب سيحتفظ بحقّه في الحفاظ على سرّية التحقيق في موضوعات وجوانب من حرب الإسناد كي لا يفيد منها العدوّ، يمكن فهم هذا مِن قِبل بعض العامّة من المؤيّدين للحزب. لكنْ في الموضوع المتعلّق بتفجيرات الـ«بيجرز» التي طالت الآلاف من الأبرياء في لبنان، فإنّ الحزب مُطالَب بمكاشفة الجمهور من دون الإفشاء بأسرار قد تفيد العدوّ. أحياناً المعلومات العامة الموجّهة للجمهور تفيد في التزام الاحتراز ضدّ خروقات إسرائيل وجرائمها الكثيرة.
(يتبع)